دمشق و"الحضن العربي": من يُهندس الإقليم؟
ما ينبغي البحث عنه لتصويب قراءة مشهد عودة دمشق إلى الجامعة العربية هو المصالح الأمنية السعوديّة المباشرة في سوريا. ثمة أيضًا تفاصيل شديدة الأهمية ترتبط بمكانة السعودية في الإقليم.
ما ينبغي البحث عنه لتصويب قراءة مشهد عودة دمشق إلى الجامعة العربية هو المصالح الأمنية السعوديّة المباشرة في سوريا. ثمة أيضًا تفاصيل شديدة الأهمية ترتبط بمكانة السعودية في الإقليم.
كان تاريخ 7 أيار 2013 مؤهلًّا ليشكّل انعطافة جذرية في المشهد السوري نحو مسار أقلّ دموية، غير أن ذلك لم يحدث. بل اختبرت سوريا بعده ذُرى غير مسبوقة من العنف. قد لا يتذكر كثر أنّ ذلك اليوم شهد لقاء بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والأميركي جون كيري في موسكو، وقاد تاليًا إلى انعقاد مؤتمر "جنيف 2"، في ما عُدّ وقتها اقترابًا أميركيًّا من التفسير الروسي لمخرجات "جنيف 1"، مع تخلي واشنطن عن المطالبة بـ"رحيل الأسد" شرطًا مسبقًا لعقد أي مفاوضات.
على الأرجح كانت الصدفة وحدها وراء انعقاد الاجتماع الاستثنائي للجامعة العربية في التاريخ نفسه بعد عشرة أعوام كاملة، ليُسفر عن إعادة تفعيل عضوية سوريا في الجامعة. لكنّ تشابه كثير من التحليلات التي تناولت الحدثين يبدو لافتًا على نحو مُدهش. في 2013، انقسمت التحليلات إلى معسكرين: واحد يعدّ محللوه ما حدث تفويضًا أميركيًّا لموسكو بهندسة المشهد السوري، وآخر يراه "استدراجًا أميركيًّا بارعًا". اليوم، يتكرر الأمر، ففريقٌ يرى في عودة دمشق إلى الجامعة "تتويجًا للانتصار"، وآخر يتحدث عن "إحكام الطوق السعودي حول دمشق"! بينما تحاول أصوات متفرقة التهليل لـ"مكاسب مشتركة" موعودة.
لا يمكن بكل تأكيد اختصار الحالة السورية بهذا التبسيط، إذ فات الأوان منذ زمن طويل على اتفاق بصيغة "رابح – رابح"، ثمّ تعذّر نجاح أي طرفٍ في تكريس معادلة "رابح – خاسر". وإن لم يكن هناك بدّ من إطلاق توصيفات من هذا النوع، فما نشهده أقربُ ما يكون إلى توافقات "خاسر – خاسر": واحد فشل في تحقيق هدف أوحد لم يكن يرضى عنه بديلًا قبل بضع سنوات، وانخرط في مغامرات إقليمية عديدة لم تنجح واحدة منها، وآخر بين يديه أنقاض مؤسسات، وأنقاض اقتصاد، وأنقاض رأس مال بشري، مع مساحات تقارب ثلث جغرافيا البلاد ما زالت خارج السيطرة.
وفق هذا المنظور، يمكن فهم دوافع الطرفين في البحث عن مرحلة جديدة، لم يكن إيجاد الباب نحوها شديد الصعوبة، غير أنّ البدايات تظلّ دائمًا أسهل ما في أي مسار!
سوريا مقابل اليمن؟
لم تكن استعادة دمشق مقعدها في الجامعة العربية حدثًا مفاجئًا بكل تأكيد، فهي منذ شهور طويلة أشبه بتحصيل حاصل مؤجل في انتظار الإخراج المناسب فحسب.
تميل كثير من القراءات إلى ربط الانفراجة في العلاقات السورية – العربية بكارثة الزلزال التي رتّبت مدخلًا «إنسانيًّا» كفيلًا بتذليل كثير من إحراجات السياسة، لكن من قال إن السياسة والإحراج يجتمعان؟ يمكن على سبيل القياس استذكار سريع لمجريات الخلاف الحاد بين رباعي السعودية، الإمارات، مصر، البحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، وكيف انتهى بعد أربع سنوات بـ"لمحة طرف"، برغم أنه وصل في ذروته إلى ما يشبه حربًا ولو لم يُطلق فيها الرصاص.
باستثناء السودان، تبدو دمشق طرفًا محتمل الحضور في كل الملفات الأخرى
يبدو فهم الدوافع السعوديّة حجر زاوية أساسيًّا في قراءة المجريات، وهي كانت قائمة قبل الزلزال بكل تأكيد، لأسباب عديدة ومتنوعة يتداخل فيها الاقتصادي، بالسياسي، بالأمني، انطلاقًا من الانقلاب الجذري للسياسة السعودية الإقليمية، والسعي إلى تصفير المشكلات على طريق "2030".
تربط تحليلات عديدة بين التحولات السعودية في مقاربة الملف السوري، وبين الملف اليمني، الذي يشكل بكل تأكيد أولوية كبرى للسعودية. لكن تلك التحليلات التي تُماهي بين الملفّين ترفع فرضيّات متداخلة عديدة إلى مرتبة المسلّمات، وعلى رأسها أن أهمية ملف سوريا في موازين الرياض تنبع بشكل أساسي من كونه ورقة مطروحة للمقايضة، وأنّ طهران صاحبة كلمةٍ فصل ويدٍ طولى إلى حدّ مقايضة هذا بذاك، وهذه قراءة سطحيّة تُشبه إلى حد كبير ما راج كثيرًا منتصف آذار/مارس الماضي، بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو، من أنّ الأخيرة ستفرض بشكل حتمي على دمشق المضي في تطبيع العلاقات مع الجار التركي اللدود، وهو أمرٌ ثبت عدم دقّته ـــ أقلّه حتى الآن ـــ بل إن العكس هو ما حصل، وتعثر المسار التركي.
أسّ الخطأ هنا هو افتراض أن التبعيّة المطلقة قائمة في عالم اليوم، وهذه مقاربات ساذجة تشبه أخرى معاكسة في الاتجاه كانت (وربما ما زالت) تفترض أن التبعية هي التي تهيمن على العلاقة بين معظم دول الخليج وبين الولايات المتحدة.
ماذا تريد الرياض؟
ما ينبغي البحث عنه لتصويب قراءة المشهد هو المصالح الأمنية السعوديّة المباشرة في سوريا، وهذا لا يقتصر بكل تأكيد على أسطوانة "إخراج إيران من سوريا". فبرغم أهمية هذا الملف، شأنه شأن ملف المخدرات وتهريبها، لن تكتمل الصورة من دون أخذ الشمال السوري في الحسبان، وإدلب على وجه الخصوص، إذ ما أشد ما قد تخشاه بلاد تحولت على نحو مثير ليصبح تركي آل الشيخ شخصية بالغة التأثير داخلها، وربما الأشد تأثيرًا، فيما كان هذا المركز قبل أعوام قليلة محجوزًا لعبد الله المحيسني؟ وهل يمكن إغفال المخاطر الكبرى التي يشكلها العنصر "الجهادي" الذي تشكل "النقمة" مادة أساسية في تركيبته الجوهرية؟
بأي هدف زار مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان الرياض وأبو ظبي بعدما استبق ذلك بمحادثات مع نتنياهو؟
تقتضي المصلحة الأمنية أن تكون الرياض حاضرة في كثير من تفاصيل الشمال ومصيره بكل تأكيد، وهذا يستدعي تنسيقًا مع دمشق، وأنقرة، وبطبيعة الحال موسكو، وحتى طهران. لقد أثبتت عقود طويلة من التجارب "الجهادية" في المنطقة أنّ نجاح وفشل أيّ منها في أي بلد كان مرتبط بصورة أساسية بما تتلقاه من عون خارجي، ومن دونه يمكن احتواء أي خرق مهما كان كبيرًا، ولا أدلّ في هذا السياق من استذكار تجربة جهيمان العتيبي (حادثة اقتحام الحرم المكي والسيطرة عليه العام 1979).
من يهندس الإقليم؟
ثمة أيضًا تفاصيل شديدة الأهمية ترتبط بمكانة السعودية في الإقليم، وهي بحسب ما توضح المجريات قد انطلقت أخيرًا لتبحث عن مصالحها بشكل مباشر بعد أن توارت طويلًا خلف الدوحة حينًا، وأبو ظبي حينًا آخر، على أن هذا لم يعد مناسبًا لطموحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي يبدو جليًّا أنه مولع بالزعامة الإقليمية.
بكل تأكيد، لا يشكل الملف السوري سوى جزء من هندسة الإقليم. ثمة ملفات أخرى عديدة لكلّ منها تعقيداته الهائلة، من لبنان، إلى السودان، مرورًا بفلسطين، وربما قبلها جميعًا ملف الانتخابات الرئاسية التركية الذي يصعب التنبؤ بما سيتمخض عنه، وتظل أبوابه مفتوحة على كل الاحتمالات بدءًا بنجاح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في اجتياز المخاض العسير، ووصولًا إلى انقلاب عسكري!
وباستثناء السودان، تبدو دمشق طرفًا محتمل الحضور في كل الملفات الأخرى. فعلى سبيل المثال، تسري منذ فترة غير قصيرة وراء الأبواب المغلقة، وفي دهاليز مراكز البحث والدراسات، نظرية مفاُدها أن أي تصحيح لموازين القوى في الإقليم ينبغي أن يأخذ في الاعتبار إعادة التوازن التدريجي لموازين القوى بين دمشق من جهة، وبين كل من "حزب الله"، والفصائل الفلسطينية، إذ ـــ بحسب هذه النظرية ـــ كان كل شيء "قابلًا للتفاهم يوم كانت دمشق قادرة على ضبط الإيقاع".
بكل تأكيد، لا تسهل إعادة عقارب الساعة إلى الخلف. لكن، وبكل تأكيد أيضًا، لا شيء يمتلك القدرة على الإدهاش كما تفعل الصفقات، وهذه منطقة منذورة للصفقات منذ عقود طويلة جدًا.
يبقى أن نتساءل: بأي هدف زار مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان الرياض، وأبو ظبي؟ وهل كانت مصادفة أنه استبق زيارته إلى المنطقة بمحادثات عن بُعد مع بنيامين نتنياهو، ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي؟ أم أن "لنسيج العلاقات هذا وصف ساحر: هندسة إقليمية أمنية"، على حدّ تعبير تسفي برئيل في "هآرتس" قبل أيام؟