آخر ما كان يتوقّعه كثيرٌ من السودانيين أن تكون ليلة الرابع عشر من نيسان/أبريل الفائت هي ساعات الهدوء الأخيرة قبل انفجار الموقف بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع"، الأمر الذي حوّل حياتهم إلى يوميّات قلق ورعب، ووضعهم أمام مفردات حرب يعيشها بعضهم للمرة الأولى، فيما حكمت الشوارع عصابات النهب والسرقة.
خوف وجثث في الشوارع
تشاء الصدف أن جميع الحروب التي شهدها السودان كانت في مواقع "طرفيّة" لم تتأثر بها العاصمة، وذلك بعكس المشهد الحالي الذي حوّل الخرطوم إلى مدينة تنام وتصحو على وقع الانفجارات والقصف والنزوح، وهي مفردات لم يألفها الكثير من سكان العاصمة.
في شارع الستين ـــ وهو أحد أكثر الشوارع حيويّة في العاصمة (في الظروف العاديّة) ـــ لم تفتح سوى بضعة محال للبقالة بالإضافة إلى فرن يتيم يقدّم الخبز للمصطفّين في طوابير قبالته. على مقربة منهم، يقف عشرات على طول الطريق يحملون حقائب أو أكياسًا قليلة، ينتظر بعضهم حافلة تقلّه إلى منطقة أكثر أمنًا، بينما يتّجه آخرون إلى بورتسودان شرقًا على أمل المغادرة النهائية من السودان.
لا يعني هذا أن المنطقة آمنة وفق حديث ياسين. يقول الشاب العشريني إن قذيفة هاون سقطت على محلّ للمواد الغذائية في المنطقة قبل ساعات قليلة، ليقضي إثر ذلك شاب سوري يعمل فيه. "تسمح بعض ساعات الهدوء بسحب الجثث الآن"، يضيف. "قبل أيام، كان الوضع أكثر سوءًا. الكثير من الجثث في الشوارع تعفّنت، ولم يتم التعرّف على أصحابها".
ويتقاطع كلام ياسين مع حديث أحمد، فطالب كليّة الطب العائد إلى زيارة ذويه علق في أحد أشدّ الأحياء خطورة ضمن منطقة تدعى "العمارات". وبرغم ضمها عددًا كبيرًا من البعثات الدبلوماسية ومقار لمنظمات دولية، فإن ذلك لم يشفع لها ولا لسكانها، وفق تعبيره. فـ"العمارات" تطل من جهة على المداخل الرئيسية للمطار، وتقود من جهة أخرى إلى منطقة السوق العربي، أي الوسط التجاري للخرطوم الذي يتصل بشارع القيادة، حيث مقار الوزارات والقصر الجمهوري القديم والجديد، وكلها كانت مسرح اشتباك يومي بين الجيش و"الدعم السريع".
يضيف الشاب المتجه إلى بورتسودان، على أمل إجلائه بحرًا إلى جدة: "رأيت بعينيّ جثثًا ملقاة في الشوارع، وأبنية محترقة بالكامل. من يسيطر اليوم؟ ببساطة، الرصاص. قد يطالك رصاص قناص أو مسلح، وقد تسقط قذيفة بقربك في أي لحظة. أنت أمام خيارين: إما محاولة الاختباء أو الخروج، وكلاهما محفوف بالخطر".
في مقابل من حسم أمره وقرّر النزوح، ثمة من فضّل البقاء في بيته لحمايته من اللصوص قدر الإمكان
كيف يأمن الناس، وسط كلّ هذا التوتر، أن يتحرّكوا للخروج من الخرطوم؟ تقول مودّة التي تنتظر سيارة تُقلّها وأسرتها إلى ولاية الجزيرة جنوب العاصمة، إن الشارع هذا قد يكون الأكثر أمنًا مقارنة بمناطق أخرى. وإذ تشير الصيدلانية إلى شارع خلفي يدعى "عبيد ختم"، تردف: "الحركة هناك تعني الموت. هذا الشارع موازٍ لمطار الخرطوم الدولي، ويقع فيه مستشفى مركزي للشرطة. وقد أصبح مسرح مواجهات متكررة بين قوات الجيش و"الدعم السريع". الناس هناك تنتظر وقف إطلاق النار للخروج بسرعة قصوى. في الأيام الاولى، كنا نستغل ساعات الإفطار خلال رمضان للتحرك. لكنّ كثيرين يعجزون اليوم عن المغادرة".
اللصوص يقتسمون الغنائم
في مقابل من حسم أمره وقرّر النزوح، ثمة من فضّل البقاء في بيته لحمايته من اللصوص قدر الإمكان. في حي "أركويت" الذي يقع قرب شارع إفريقيا المطل بدوره على المطار، أصواتُ رصاص واشتباكات يوميّة ومشاهد عربات "الدعم السريع" تتحرّك مسرعة فيه. يحصل هذا في ظلّ انقطاع الكهرباء والمياه، والضعف الشديد في شبكات الاتصالات، فيما تخرج مستشفيات ونقاط طبية في المنطقة المحيطة من الخدمة تباعًا، ويعقّد المشهد انفلات أمني واسع النطاق.
عبد الرحمن طبيب أسنان يمتلك عيادة في المنطقة. يتحدث عن ظاهرة يصفها بـ"اللافتة": نجحتُ في الوصول إلى عيادتي لسحب أوراق وملفات مهمة، وكان لافتًا وجود عشرات الشبان والمراهقين الذين لم أرهم من قبل في الطريق. علمت لاحقًا أن هؤلاء أفراد عصابات تراقب البيوت والمحال التي يغادرها أصحابها، حتى تقوم بسرقتها".
ليست هذه الظاهرة جديدة تمامًا في الخرطوم وفق كلام الرجل الأربعيني. يطلق البعض على هؤلاء وصف "النيقرز"، يأتي كثير منهم من مناطق بعيدة، وينتشرون في الأحياء حاملين سواطير وسكاكين، ليقوموا باقتحام البيوت وسرقة ما يجدونه فيها. اتسعت رقعة هذه الظاهرة خلال السنوات القليلة الماضية، وتشكلت نتيجة ذلك في عدد من الأحياء لجانٌ لحمايتها بالتعاون مع الشرطة المحلية، لكنّ هؤلاء كانوا يعيدون الكرة كلّ بضعة أسابيع".
قبل أيام، يقول أبناء المنطقة إن "النيقرز" اقتحموا الحي ذاته بأعداد كبيرة، وسط محاولات قوات من "الدعم السريع" تتمركز هناك ـــ بحسب الأهالي ـــ إبعادهم دون جدوى، ما أدى إلى وقوع عمليات نهب لمستودعات أدوية ومواد غذائية، وصولًا إلى مبنى تابع لبرنامج الأمم المتحدة للغذاء العالمي.
مثلث الخرطوم المقطوع
يلتقي عند العاصمة الخرطوم النيل الازرق والأبيض، ليشكّلا معًا نهر النيل الصاعد شمالًا نحو مصر. وتمتدّ منطقة بحري على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، وتجاورها غربًا مدينة أم درمان على النيل الأبيض. تشكّل المدن الثلاث أجزاء العاصمة، حيث تربطها سلسلة من الجسور.
تتوزّع دوائر رسمية وحكومية كثيرة بين جنبات مثلث العاصمة، ما يحتّم عبور أحد هذه الجسور من منطقة إلى أخرى، وهو ما ينسحب على المستشفيات والجامعات ومراكز تجارية وخدمية. في مقابل التظاهرات التي كانت تخرج بشكل دوري قبل الحرب، كانت قوات الأمن تغلق غالبية الجسور وتترك عددًا محدودًا منها مفتوحًا، ما ينتج زحامًا خانقًا يعرقل حركة السير من وإلى أجزاء العاصمة الثلاثة.
اليوم، تتقطع أوصال الخرطوم مع سعي كل من طرفي النزاع إلى حسم السيطرة على هذه الممرات، ما يعني أن محاولات النزوح من بحري وأم درمان إلى مناطق أكثر أمنًا تزداد خطورة وتعقيدًا. لا يتعلق الأمر بالنزوح فقط، بل بالبحث عن الغذاء وتأمين الدواء أو الوصول إلى المشفى. صحيح أن بعض الجسور مفتوح، لكن فيه نقاط ارتكاز تتبع لأحد الطرفين المتعاركين، وقد يكون مجرد التوقف ثمنه الموت.
تتراجع أخبارُ السودان تدريجيًا، من دون أن يعني ذلك أنّ الصراع متّجه نحو الحلّ. أخبار الهدن المتتالية لم تنعكس سوى هدوء لأوقات قصيرة، يستثمرها المدنيون للهرب أو محاولة تأمين سبل البقاء، وسط صدمة تعيق البحث عن إجابات على الأسئلة المعلقة حول مستقبل البلاد والمرحلة القادمة. ربما هو قدر السودان ألا يخرج من حرب، إلا ليقع في أخرى، هذه المرة في قلب العاصمة بعدما صدّعت الحروب الأهليّة الأطراف على مدى عقود.