السوريّون في الخرطوم: ها هو اختبار النزوح يتجدّد!

كان السودان وجهة رحيل لآلاف السوريين هربًا من ويلات الحرب. لكّنه اليوم بات مجرّد محطّة للعديد منهم، بانتظار إجلاء جديد.

شكّل السودان إحدى وجهات السوريين هربًا من جنون الحرب وتدهور الوضع المعيشي في بلادهم، إلى أن وضعهم الاقتتالُ الأخير أمام وقائع اعتقدوا أنهم فارقوها، قبل أن تتكرر هموم النزوح والإجلاء، ويضيع معها ما قاموا ببنائه فوق أرض النيل.

لا تهدأ حركة الحافلات يوميًا من العاصمة الخرطوم إلى مدينة بورتسودان. فالأخيرة أصحبت محطة للإجلاء البحري والجوي، يتحرك نحوها أفراد من مختلف الجنسيات، وبينهم سوريون.

أسعار التذاكر قفزت بسرعة لتبلغ أرقامًا فلكية؛ من عشرة آلاف جنيه سوداني (16 دولارًا) إلى مئة وثمانين ألفًا للشخص الواحد (300 دولار). لكن لم يكُن للهاربين من جحيم المعارك من خيار سوى الرحيل. ألفُ كيلومتر تفصل الخرطوم عن بورتسودان الواقعة شرق البلاد، تبدأ معها رحلة جديدة من رحلات النزوح السوري.

بورتسودان: بانتظار الفرج

في نادي "هيئة الموانئ البحرية" جنوب بورتسودان، يتجمّع أبناء الجاليات بانتظار عمليات الإجلاء التي كانت السعودية تقودها نحو جدة، علمًا بأن طائرات تتبع لدول عدة راحت تنقل رعاياها أيضًا.

النادي المذكور هو مساحة مكشوفة أمام البحر، مخصصة لاستيعاب أعداد قليلة من الناس. لكن مع اندلاع الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" وتمدّدها عبر المناطق، راح النادي يغصّ برعايا عشرات الدول، بينهم أكثر من ثلاثة آلاف سوري.

هكذا، امتلأت بسرعة فنادق المدينة الصغيرة على البحر الأحمر التي لم تكن مهيئة لاستقبال آلاف النازحين. ووصل سعر الغرفة في فندق متواضع إلى مئة دولار، وبات توفير شقة للإقامة أكثر صعوبة مع تزايد أعداد الحافلات التي تصل يوميًا حاملة الهاربين من معارك الخرطوم. وهو أمر دفع بكثيرين إلى افتراش الأرصفة أو الإقامة في المساجد بانتظار الإجلاء، وقد كانت نسبة السوريين بين هؤلاء مرتفعة.

وليس ارتفاع نسبة السوريين بين المنتظرين صدفة. فالجالية السورية من الأكثر انتشارًا في السودان، ومعانات أبنائها تزداد مع بطء عمليات الإجلاء بالمقارنة مع أصحاب سائر الجنسيات. كثير منهم يعيش مرارة انتظار فرج قد يطول ميعاده وفق تعبير فهد. فالرجل الأربعيني يختبر مأساة النزوح مجددًا، كما قبل عشر سنوات، يوم غادر مدينته الرقة باتجاه حمص، ومنها إلى دمشق، قبل أن يشد رحاله إلى السودان. هناك، أسّس شركة متخصصة بالسياحة والسفر، واستقر في الخرطوم إلى أن أجبرته المعارك الأخيرة على النزوح إلى بورتسودان حيث ينتظر موعد رحيل آخر.

"مضى على وجودي عشرة أيام"، يقول. "كل يوم نسمع أن حاملي هذه الجنسية أو تلك طُلب منهم التوجه إلى البواخر. لكن القائمة دائمًا ما تكاد تخلو من السوريين. بقينا في الميناء مع أبناء الجالية اليمنية، نسمع كل يوم عن طائرات ستتجه لإجلاءنا. لكنّ الإشاعات كثيرة".

وقد توجهت بالفعل طائرتان تابعتان لشركة "أجنحة الشام"، وقامتا بإجلاء نحو 400 سوري من مطار بورتسوان باتجاه دمشق، غالبيتهم من أصحاب الحالات المرضية المزمنة والسيدات الحوامل. انتظر كثيرون بعدها رحلات إضافية وسط كلام عن أسعار تذاكر تقترب من 500 دولار للشخص الواحد، لكنهم ظلّوا عالقين في المدينة لأيام بانتظار الحلول.

شريحة الشباب هي الأكثر تضررًا، إذ إن كثيرًا منهم يفّضل ألا يعود إلى سوريا لتجنب دعوته إلى الخدمة الالزامية

هل كانت لهؤلاء خيارات بديلة؟ تجيب صفاء، العاملة في إحدى مستشفيات الخرطوم، قائلة إن الخيارات الأخرى بالغة الصعوبة. فالتوجه شمالًا إلى مصر لا يعني سهولة العبور، إذ تفرض القاهرة رسومًا على التأشيرة تصل إلى 1300 دولار، يضاف إلى ذلك بطء شديد في الاجراءات عند معبر أرقين البري، فيما تبدو الطريق نحو الحدود الاثيوبية أكثر تعقيدًا، مع تشّدد في إجراءات الدخول والمغادرة من مطار أديس أبابا، لتبقى خيارات تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا شبه مستحيلة عبر الطرق الصحراوية شديدة الخطورة.

ولم تتوقف الأزمة عند وجهة السفر. يتحدث رضوان ورفاقه مثلًا عن فقدانهم جوازات سفرهم. إذ ظلّ بعضها في السفارة السورية بالخرطوم حيث كانت تخضع للتجديد، فيما علقت أخرى في "دائرة شؤون الأجانب"، حيث يجدّد البعض إقامته السنوية.

يضيف الشاب العامل في أحد المصانع بمدينة أم درمان: "كثيرون لم يتمكنوا من استلام جوازات سفرهم، ولم يجدّدها آخرون بسبب ارتفاع التكلفة. وبعض رفاقي عجزوا عن الإتيان بوثائقهم لأنها ظلّت في المصنع الذي دُمر بفعل القصف".

ولعلّ شريحة الشباب هي الأكثر تضررًا في هذه التغريبة. إذ إن كثيرًا منهم يفضّل ألا يعود إلى سوريا لتجنب دعوته إلى الخدمة الالزامية، أو لعدم القدرة على تسديد البدل النقدي بصورة مباشرة. وهي مسألة دفعت بعضهم إلى إرسال زوجاتهم وأبنائهم إلى دمشق بانتظار حلول تتحدث عنها السفارة السورية، التي دعت أقاربهم إلى تقديم معاملة في وزارة الخارجية السورية تسمح لهم في وقت لاحق بالتوجه إلى البلاد لتسوية أوضاعهم.

جنسيات وإقامات... ثمّ هجرة

يُقدَّرُ عدد أفراد الجالية السورية في السودان بـ 30 ألف شخص وفق تصريح سابق للقائم بالأعمال السوري في الخرطوم بشر محمد الشعار. ولا يرتبط تواجد السوريين بالحرب الدائرة في بلادهم منذ أكثر من عشر سنوات. فالعقود الماضية شهدت هجرة سوريين واستقرارًا لهم في العاصمة السودانيّة، حيث عمل كثيرٌ منهم في مجالات الصناعة والتجارة ودرس بعضهم في جامعات العاصمة السودانيّة، قبل أن ترفع الحرب من عددهم تدريجيًا، لا سيما بعد العام 2013، حين فرضت مصر قيودًا على تأشيرات الدخول وأصبحت خيارات كلبنان والأردن أكثر صعوبة أو محفوفة بالمخاطر، ليبرز اسم السودان كبديل ظلّ يستقبل السوريين من دون تأشيرة ويقدّم تسهيلات للإقامة والعمل.

وقد تمكّن بعض السوريين من الحصول على الجنسية السودانية في ظلّ حكم الرئيس السابق عمر البشير. غير أن تسهيلات كهذه بدأت تتلاشى مع عزل الأخير وإصدار قرار يُلزم القادمين بالحصول على تأشيرة، ويرفعُ رسوم الإقامة السنوية، كما شُكّلت لجنة لسحب الجنسيات الممنوحة في السابق.

ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، فضّل البعض المغادرة، فيما حسم آخرون خيارهم بالبقاء. لكنّ السودان ظلّ من الخيارت التي يفضّلها بعض السوريين للسفر والإقامة. فرسوم التأشيرة تبقى معقولة بالقياس مع تلك التي تفرضها بلاد أخرى، فيما فرص العمل متوفرة نسبيًا، وإن كان ذلك بأجور متوسّطة. أما أصحاب الاستثمارات والعاملين في التجارة والصناعة، فوجدوا في السودان سوقًا كبيرة للإنتاج والتصريف. 

جولة في شوارع الخرطوم: الخوف يعمّ واللصوص ينتشرون

تتراجع أخبارُ السودان تدريجيًا، من دون أن يعني ذلك أنّ الصراع متّجه نحو الحلّ. أخبار الهدن المتتالية لم..

طارق العبد
هكذا ينهار القطاع الصحي في السودان وهكذا تنتشر الأوبئة

مع تصاعد الاشتباكات وتزايد أعداد الجثث في الخرطوم، تزامنًا مع ارتفاع الحرارة إلى خمسين درجة مئويّة، تعود..

طارق العبد
أطباء سوريا: هجرة في الاتجاهات كافة

مع اشتداد وطأة الظروف المعيشيّة في سوريا، تزداد مساعي الكثير من الأطباء للهجرة، ويتراجع عديد الأطباء..

طارق العبد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة