أطباء سوريا: هجرة في الاتجاهات كافة

مع اشتداد وطأة الظروف المعيشيّة في سوريا، تزداد مساعي الكثير من الأطباء للهجرة، ويتراجع عديد الأطباء العاملين في اختصاصات شتّى. ومع الفجوات التي يخلّفها هذا النزيف، تكثر التحديات في القطاع الطبي السوري.

ليست هجرة الأطباء من سوريا جديدة، إذ مثّلت طوال السنوات الماضية ما يشبه الظاهرة. غير أن تدهور الوضع المعيشي في الآونة الأخيرة زاد من أثرها، إلى حدّ بات يُرصد معه نقص في بعض التخصّصات بعدما شدّ أطباء كثر رحالهم الى أوروبا والخليج وإفريقيا، بحثًا عن خيارات أفضل.

في أحد معاهد اللغات بدمشق، يقضي حسن نحو ثلاث ساعات يوميًا، يدرس خلالها اللغة الألمانية استعدادًا لسفره المنتظر في الشتاء وفق ما يقول. فطبيب العظام حسم خيار الهجرة بعد إنهاء تخصصه، في محاولة منه لاكتساب مهارات وخبرات تساعده في مجال عمله لاحقًا في المهجر. غير أن التحدي الرئيسي يتمثل في إتقانه اللغة الألمانية، وهو ما تطلبه السفارة الألمانية حتى يُتاح للمتقدمين فرصة تعديل الشهادة والحصول على وظيفة.

المسألة ذاتها تنسحب على جلال. فطالب كلية الطب يوازن بين متطلبات دراسته لامتحان التخرج الوشيك بعد أسابيع، وبين استكمال دروس اللغة، بمستويات عليا، تمهيدًا لامتحان آخر في "معهد غوته" ببيروت في الخريف. لكن لماذا الهجرة بعد التخرج رأسًا؟ وما الذي يدفعه إلى ذلك مبكرًا؟ "لا مجال لإضاعة الوقت" يقول الشاب العشريني؛ "الكثير من زملائنا هاجروا وقرروا بدء العمل هناك ونشطوا في مجال تخصّصهم، بدلًا من الاستمرار بالعمل هنا في ظروف غير معقولة". 

ويقول القائمون على المعاهد المتخصّصة بتعليم الألمانية إن نسبة الأطباء في كلّ صف عالية نسبيًا. وقد بدا الإقبال الزائد عليها لافتًا، وفق قولهم، إلى حدّ الاضطرار إلى فتح صفوف إضافية لاستقبال المزيد من الطلبة، مع مراعاة أوقات تفرّغهم.

على أن التكلفة العالية لدروس اللغات، والأعلى لمتطلبات السفر إلى ألمانيا (نحو خمسة عشر ألف يورو بحسب ما يُظهر موقع السفارة الألمانية) تفرض نفسها على الكثير من الراغبين بالهجرة، ما يدفع هؤلاء إلى تنويع خياراتهم بين الخليج والعراق وليبيا، وصولًا إلى الصومال وليبيريا وسيراليون في إفريقيا.

التخدير والطب الشرعي من أكثر التخصّصات التي تعاني من نقص في عديد العاملين

برغم ذلك، فإن ظروف عمل الأطباء المنتقلين إلى دول عربية أو إفريقية ليست دائمًا كما يشتهون. إذ كثيرًا ما تتراجع الأجور أو لا يتم سدادها في الوقت المحدد، فيما لا ينال بعض الأطباء إقامات تسمح لهم بالعمل، ما يجعل ممارستهم اختصاصاتهم في دول مثل العراق محفوفة بالمخاطر.

وتزداد هذه المخاطر عند العمل في بلدان غير مستقرة كالصومال أو السودان أو جنوب السودان. كما أن سوق العمل في الخليج بات أكثر تنافسية، مع اتجاه دوله إلى منح الأفضلية لمواطنيها، وفرضها شروطًا صعبة على الوافدين، من بينها الحضور والبحث عن الفرص مع وجود احتمال عالٍ لعدم نيلهم القبول، وهو ما يرتب خسارات مالية باهظة تزيد من واقعهم المعيشي سوءًا.

مشهد هجرة الجيش الأبيض بدأ ينعكس بشكل لافت على القطاع الصحي في سوريا إذًا، مع ازدياد الفاقد منهم وفق ما أفاد نقيب الأطباء د. غسان فندي في تصريحات لصحيفة "الوطن" المحلية، لفت فيها إلى أنّ أعدادًا كبيرة منهم تتقدم للحصول على وثائق سفر، مقدرًا العدد الحالي للأطباء في سوريا بما بين 30 و35 ألف طبيب.

ويتساءل مدير صحة السويداء د. طارق الجمال عن عزوف الأطباء عن التعاقد من مديرية الصحة في المحافظة، بينما يعملون في جمعيات ومراكز صحية غير مرخصة، علمًا أن المشافي الحكومية في حاجة ماسة إليهم. غير أن الإجابة على هذا التساؤل واضحة، وهي تكمن في الفارق في الأجر. إذ لا يتجاوز الـ400 ألف ليرة سوريّة في المشافي الحكومية بعد القرار الأخير برفع قيمة الرواتب، فيما يصل إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف هذا الرقم في الجمعيات.

توازيًا، كشفت رئيسة رابطة أطباء التخدير في نقابة الأطباء د. "زبيدة شموط"، في حديث إلى الصحيفة نفسها، عن فقدان ستين في المئة من الكادر الطبي. ويبدو التخدير واحدًا من أكثر التخصّصات التي تعاني من نقص في عديد العاملين، والأمر نفسه ينطبق على الطب الشرعي. ذلك أن مجالات العمل في الاختصاص الأخير محصورة في المستشفيات أو الهيئات الحكومية والقضائية، من دون إمكانية فتح عيادات خاصة.

تراجع هاجس الخدمة العسكرية أو الاضطرار إلى دفع بدل نقدي مقابل الإعفاء، بعد تحسين ظروف الأطباء الملتحقين

وقد عمل برلمانيون في مجلس الشعب على إنجاز قانون يرفع سن التقاعد للطبيب حتى 65 سنة، في مسعى للحفاظ على الكوادر صاحبة الخبرة، فيما كثُر التداول بمقترحات، في الفترة القليلة الماضية، تدعو إلى رفع مستوى استيعاب الجامعات للمقبولين في كليات الطب، بغرض رفد البلاد بعدد أكبر من الخريجين لتعويض الفاقد في القطاع الصحي.

الاختناق المعيشيّ أولًا

تعود الرغبة بالهجرة والعمل في الخارج بالدرجة الأساس إلى الحاجة إلى تأمين ظروف معيشية أفضل للطبيب وأسرته، فيما تراجع (نسبيًا) هاجس الخدمة العسكرية أو الاضطرار إلى دفع بدل نقدي مقابل الإعفاء، بعدما نجحت قرارات صادرة عن الجيش ونقابة الأطباء بتحسين ظروف الأطباء الملتحقين.

إذ باتت المدة المطلوبة للخدمة تقتصر على سنة ونصف السنة، يقضيها الطبيب في مشفى عسكري في الموقع الذي يختاره. ويشمل هذا الأطباء المختصّين وحديثي التخرج وصولًا إلى أطباء الأسنان والصيادلة. وبحسب أطباء التحقوا بالخدمة، أدّت هذه القرارات إلى تزايد أعداد المتقدمين إلى الخدمة العسكرية، خصوصًا أن تسريحهم من الخدمة يحصل فعلًا بعد عام ونصف العام. 

من هنا، يبقى الهاجس المعيشي المسبب الأبرز للسفر. فتراجع الأوضاع الاقتصادية وسعر الصرف لم يعد يسمح لكثير من الناس بمراجعة الأطباء إلا في حالات اشتداد المرض. يُضاف إلى ذلك تزايد صعوبات التشخيص والعلاج، والارتفاع المستمر في أجور المستشفيات الخاصة والمراكز الطبية التخصصية، وتعطّل بعض الأجهزة في المشافي العامة وصعوبة إصلاحها بشكل سريع.

وإذا أضفنا أيضًا أسعار الكهرباء والوقود للمولدات، فضلًا عن تكاليف المواصلات والأدوية، تغدو المعادلة غير متوازنة، وهو ما يدفع العديد من العاملين في القطاع الطبي إلى إغلاق عياداتهم والبحث عن فرص عمل في الخارج، فيما يكابد الباقون للتعامل من الأوضاع المتدهورة.

جولة في شوارع الخرطوم: الخوف يعمّ واللصوص ينتشرون

تتراجع أخبارُ السودان تدريجيًا، من دون أن يعني ذلك أنّ الصراع متّجه نحو الحلّ. أخبار الهدن المتتالية لم..

طارق العبد
السوريّون في الخرطوم: ها هو اختبار النزوح يتجدّد!

كان السودان وجهة رحيل لآلاف السوريين هربًا من ويلات الحرب. لكّنه اليوم بات مجرّد محطّة للعديد منهم،..

طارق العبد
هكذا ينهار القطاع الصحي في السودان وهكذا تنتشر الأوبئة

مع تصاعد الاشتباكات وتزايد أعداد الجثث في الخرطوم، تزامنًا مع ارتفاع الحرارة إلى خمسين درجة مئويّة، تعود..

طارق العبد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة