هكذا ينهار القطاع الصحي في السودان وهكذا تنتشر الأوبئة

مع تصاعد الاشتباكات وتزايد أعداد الجثث في الخرطوم، تزامنًا مع ارتفاع الحرارة إلى خمسين درجة مئويّة، تعود خطورة انتشار الأوبئة للارتفاع، في بلد كان يعاني منها قبل الحرب أصلًا.

مع تجاوز الحرب في السودان يومَها الستين، يصارع ما تبقى من القطاع الصحّي للبقاء بأي وسيلة كانت، في ظل تراجع حاد في عدد المشافي والمرافق الطبية، فيما تتزايد مؤشرات الخطر من معركة جديدة تنتظر أبناء النيل قوامُها الأوبئة والأمراض الناجمة عن التلوث.

المشافي تحت القصف

"إن لم يتلقّ جرعاته، سينتشر السرطان في جسد أبي ويموت". تختصر رُفيدة حال والدها بهذه الجملة، فيما تجهد لنقله إلى مستشفى بولاية الغضارف (400 كلم جنوب شرق الخرطوم). فالأب المريض بسرطان الرئة يحتاج إلى تلقّي جرعات العلاج الكيماوي بانتظام. ولأن المستشفى المركزي المُخصص لعلاج الأورام يقع في قلب العاصمة، حيث دارت اشتباكات عنيفة بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، فإن الخيار الوحيد كان التوجّه إلى أقرب موقع صحي آمن يقدّم هذه الخدمات العلاجية.

تنجح السيدة أخيرًا في طلب سيارة خاصة تُقلّها ووالدها وسائر أفراد العائلة خارج الخرطوم. فيما يبدو الوضع أكثر تعقيدًا بالنسبة لمزمل. فمريضُ القصور الكلوي يحتاج بشكل دائم إلى الخضوع لجلسات الغسيل والتنقية الدموية، وهي شبه متوقفة في منطقة الخرطوم بحري شمالًا، علمًا بأن الأمور زادت سوءًا بسبب رداءة شبكات الاتصال وصعوبة الوصول إلى طبيبه المعالج، وكذلك بسبب عدم القدرة على الخروج نحو منطقة آمنة.

يستشهد ابن مزمل بحوادث خطف واعتداء وحتى قتل للهاربين من جحيم المعارك. حتى السعي للوصول إلى مدينة أم درمان غربًا كان بالغ الصعوبة. إذ احتدمت المواجهات عند الجسر الرابط بين ضفتي النيل، لتتحول معها مستشفيات عدّة الى أهداف للقصف والسيطرة من جانب "قوات الدعم السريع".

منذ الأيام الأولى للقتال، أخلت قوات "الدعم السريع" عددًا من المشافي وخصّصتها لعلاج مقاتليها

هكذا، قضى تسعة أطباء وطلاب طب خلال الاشتباكات، وخرجت أكثر من 70% من المرافق الصحية في الخرطوم من الخدمة وفق بيان نقابة الأطباء، فيما تصارع المؤسسات الباقية لتقديم خدمات الإسعاف الأولية، ويسود الرعب في أوساط الكادر الطبي في ظلّ تزايد المعلومات عن اختطاف أطباء واقتيادهم لعلاج المقاتلين المصابين، وإعلان النقابة عن استهداف سيارات الإسعاف وعدم السماح لبعضها بالمرور لنقل المرضى.

وليس الوضع الأمني ما يمنع المرضى من تلقي العلاج فقط. فالمستلزمات الطبية والأدوية باتت قليلة، وهذا الأمر ينسحب على العديد من الولايات السودانية بما فيها الآمنة نسبيًا، لأن معظم واردتها تصل من الخرطوم. أما الأخبار الأكثر إيلامًا، فكانت تصل تباعًا من مدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور مع إعلان وفاة مرضى الفشل الكلوي بالجملة، في إشارة إضافية إلى أن انهيار القطاع الصحي تجاوز الخرطوم.

العاصمة مشلولة صحيًا

يشرح أحد الأطباء السودانيين مسار انهيار المنظومة الصحية في بالبلاد: فمنذ الأيام الأولى للقتال، أخلت قوات "الدعم السريع" عددًا من المشافي وخصّصتها لعلاج مقاتليها. حصل هذا لمستشفى "الساحة" القريب من مطار الخرطوم الدولي، وكذلك لمستشفى "الراقي" جنوب العاصمة، ثمّ حُوّل مستشفى مركزي شرق النيل إلى مركز عمليات، قبل أن يستهدفه الجيش السوداني بقصف جوي.

على أن الأخطر، وفق كلام الطبيب الذي طلب عدم الكشف عن هويته، هو اقتحام مرافق حيوية كالصيدلية المركزية في حي جبرة جنوب العاصمة، وصندوق الإمداد القومي ـــ وهو المستودع الأضخم للأدوية والمعدات الطبية في السودان ـــ وكذلك بنك الدم، ما يعني قطع إمكانية نقل المواد اللازمة للكثير من المراكز الصحية.

يُنذر اقتراب موسم الأمطار باحتمال تزايد الإصابة بالملاريا التي كابد السودان وقطاعه الصحي لمواجهة تمددها عام 2022

كلام الطبيب تؤكده بيانات وزارة الصحة السودانية، التي أعلنت منتصف أيار/مايو الفائت أنّ قوات "الدعم السريع" تمركزت في 24 مستشفى وأربعة مراكز حيوية أخرى هي الصندوق القومي للإمدادات الطبية، ومعمل الصحة القومي، ومجمع سلسلة تبريد اللقاحات، وبنك الدم القومي. فيما اعتبرت مستشفيات مركزية مثل الخرطوم، والشعب، والرازي، والساحة، وشرق النيل، والوالدين مواقع عسكرية.

خطر الأوبئة

شكّلت المعارك المحيطة بالمركز الوطني للمختبرات في شارع الستين وسط الخرطوم، ومن ثمّ السيطرة عليه، إشارة بالغة الخطورة لاحتمال تفشي الأوبئة، ما دفع "منظمة الصحة العالمية" لإصدار تحذير في هذا الصدد. إذ إنّ المركز يضم مسبّبات أمراض كالحصبة وشلل الاطفال والسلّ المقاوم للعلاجات، ما يعني وجود خطر على الأفراد غير المدربين في المكان، وعلى كلّ من قد تنتقل إليه العدوى لاحقًا.

وما يزيد من التحدّيات أن البلاد كانت تشهد اتساعًا في رقعة الأمراض السارية والمعدية، فقد واجهت خلال الأشهر السابقة للحرب مخاطر انتشار أمراض كالطاعون، الذي حذر "المجلس الاستشاري للطب العدلي" من تفشيه بسبب تراكم جثث غير مدفونة في مشارح بالعاصمة. إذ إن مشرحة "بشائر" في الخرطوم، على سبيل المثال، كانت تحوي وحدها ألف جثة مجهولة الهوية، غير مدفونة، بسبب أزمة التشريح وصعوبة التعرف على أصحابها إبان أحداث السنوات القليلة الماضية.

ومع تصاعد الاشتباكات وتزايد أعداد الجثث في الشوارع وعدم القدرة على دفنها، تزامنًا مع ارتفاع الحرارة وصولًا إلى نحو خمسين درجة مئويّة في الخرطوم، تعود خطورة انتشار الطاعون للارتفاع، وكذلك انتشار الكوليرا في بلد كان يعاني منها قبل الحرب أصلًا.

وتتزايد حدّة الأزمة في ظل انقطاع خدمات المياه وصعوبة الوصول إلى مصادر مياه نظيفة، بينما يُنذر اقتراب موسم الأمطار باحتمال تزايد الإصابة بالملاريا التي كابد السودان وقطاعه الصحي لمواجهة تمددها مع وصول عدد الإصابات إلى 2.7 مليون عام 2022، ومعها حمى الضنك التي سجل شهر آذار/مارس الفائت 1,100 حالة منها في الخرطوم، فيما أعلنت 12 ولاية من أصل 18 انتشار المرض. كلّ هذا فيما تتزايد التحذيرات من تراكم النفايات (يُقدر حجمها اليومي في الخرطوم بحسب أرقام وزارة الصحة بـ18 ألف طن) وانتشار الحشرات والبعوض الناقل لهذه الأمراض في مستنقعات المياه الراكدة.  

وبرغم أن التعافي من الملاريا وحمى الضنك وغيرها من الأمراض يبقى ممكنًا، إلا أنه يرتبط بتوافر الأدوية وسرعة تطبيق العلاجات، لا سيما في حالات المرضى المزمنين، كحالات الفشل الكلوي وزرع الأعضاء والسرطان والسكري.

يقف القطاع الصحي في السودان إذًا على شفير الانهيار الشامل. ليس الرصاص مكمن الخطر الوحيد في البلاد. بل ثمّة أمراض كثيرة تزاحمه، في خضم الحرب الهستيريّة المستمرّة.

جولة في شوارع الخرطوم: الخوف يعمّ واللصوص ينتشرون

تتراجع أخبارُ السودان تدريجيًا، من دون أن يعني ذلك أنّ الصراع متّجه نحو الحلّ. أخبار الهدن المتتالية لم..

طارق العبد
السوريّون في الخرطوم: ها هو اختبار النزوح يتجدّد!

كان السودان وجهة رحيل لآلاف السوريين هربًا من ويلات الحرب. لكّنه اليوم بات مجرّد محطّة للعديد منهم،..

طارق العبد
أطباء سوريا: هجرة في الاتجاهات كافة

مع اشتداد وطأة الظروف المعيشيّة في سوريا، تزداد مساعي الكثير من الأطباء للهجرة، ويتراجع عديد الأطباء..

طارق العبد

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة