رؤية "قرن تركيا" في تشكيل مستقبل سوريا
يعكس المشهد اليوم دور تركيا المتعمق في تشكيل مستقبل سوريا، منذ أن توغلت الدبابات التركية لأول مرة قبل ست سنوات. فهل ستكون سيطرة تركيا على تل رفعت وعين العرب ومنبج، هي بداية تشكل مستقبل سوريا رسميًا؟
يعكس المشهد اليوم دور تركيا المتعمق في تشكيل مستقبل سوريا، منذ أن توغلت الدبابات التركية لأول مرة قبل ست سنوات. فهل ستكون سيطرة تركيا على تل رفعت وعين العرب ومنبج، هي بداية تشكل مستقبل سوريا رسميًا؟
في 26 تشرين الأول/أكتوبر من العام الجاري، غرّد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان "مع رؤية قرن تركيا، الذي سنبنيه على إنجازات بلدنا وحضارتنا، سوف نحقق مبادرات عمرها قرن من الزمان، وسوف تتحقق أحلامنا إن شاء الله".
نُشرت التغريدة في تمام الساعة 20:23، والتي تشير إلى العام 2023، أي العام الذي تحتفل فيه تركيا بالذكرى المئوية لتأسيسها، والذي يصدف أيضًا أن يكون العام الذي ستجري فيه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد.
تُمثل "قرن تركيا" الوثيقة الرئيسة للبيان الانتخابي لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وهي تشرح الأهداف والغايات التي يتصورها الحزب في كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية عل المستوى المحلي والدولي.
ما يثير المخاوف والشكوك في قرن تركيا بشأن مستقبل سوريا، ليس الوثيقة بحد ذاتها فقط، بل مشاركة الرئيس التركي – رئيس حزب "العدالة والتنمية" – على وسائل التواصل الاجتماعي فيلمًا يشرح بالتفصيل حياة شاكر زمري (Şakir Zümre)، أحد أعمدة صناعة الدفاع التركية في "حرب الاستقلال". كانت تلك الحرب هي التي شنتها الحركة الوطنية التركية ضد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وأجبرتهم على التخلي عن "معاهدة سيفر" التي خسرت بموجيها الدولة العثمانية جزءًا كبيرًا من أراضيها، وتوقيع "اتفاقية لوزان" عوضًا عنها عام 1923، والتي أعادت جزءًا من تلك الأراضي، أي الأناضول وشرق تراقيا (اسطنبول حاليًا)، لتتشكل الجمهورية التركية بحدودها الحالية.
هل قرن تركيا مجرد وثيقة انتخابية، أم أنه يمثل رغبة تركيا المستقبلية بتأسيس جمهورية بحدود جديدة؟ وهل سيكون العام 2023 "قرن تركيا" في العالم من بوابة سوريا؟ وفقًا لإردوغان، فإن هذا القرن، خصوصًا بعد عام 2023، سيكون "قرن تركيا" في العالم.
يبدو التوقيت مناسب لبدء تركيا عملية برية داخل الأراضي السورية
سوريا في قرن تركيا
ورد في وثيقة "قرن تركيا" في القسم الخاص بالدفاع ما يلي: "من خلال عمليات درع الفرات، وغصن الزيتون، والمخلب، ونبع السلام، ودرع الربيع، وعملية المخلب-السيف، قضينا على ممر الإرهاب الذي كان يسعى إلى تشكيله عبر حدودنا الجنوبية...". ويُقصد بالإرهاب "وحدات حماية الشعب (YPG)" في سوريا التي تعتبرها أنقرة أحد أذرع "حزب العمال الكردستاني (PKK)" المصنف منظمة إرهابية، والمحظور لديها.
جميع العمليات التي ذُكرت في الوثيقة هي عمليات عسكرية نفذها الجيش التركي عبر الحدود برفقة الفصائل المسلحة التي يدعمها داخل الأراضي السورية (باستثناء المخلب التي نُفّذت في العراق). وكان الهدف المعلن للعمليات العسكرية التي بدأت بعملية "درع الفرات" بُعيد محاولة الانقلاب على الرئيس التركي في العام 2016، وكان آخرها عملية "المخلب-السيف" بُعيد تفجير إسطنبول في 13 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، هو تحقيق "رؤية تركيا 2023" في "اجتثاث الإرهاب من جذوره" وإفقاد "حزب العمال الكردستاني" نشاطاته تمامًا، من خلال إنشاء "منطقة آمنة على طول الحدود الجنوبية مع سوريا". ولكن، ما هو الهدف غير المعلن؟
الاحتلال التركي
منذ عام 2016، نفذت تركيا ووكلاؤها عمليات عسكرية متتالية في مناطق عدة على طول الحدود داخل الأراضي السورية، "درع الفرات" (2016) في منبج، و"غصن الزيتون" (2018) في عفرين، و"نبع السلام" (2019) في منبج وعين العرب (كوباني). ومن بعدها، توقفت العمليات العسكرية المباشرة بوساطة روسية. وانتشرت القوات الروسية في بعض المناطق الحدودية التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا. في العام 2020، نفذت تركيا عملية أسمتها "درع الربيع" في إدلب، لكن هذه المرة لم تكن ضد الأكراد، بل ردًا على سلاح الجو السوري الذي كان يستهدف الفصائل المسلحة في الريف الجنوبي لمحافظة إدلب، ولعكس المكاسب التي حققها الجيش السوري حول إدلب في الشمال الغربي.
وبموجب هذه العمليات، تمكنت السلطات التركية من السيطرة بشكل مباشر، أو عبر وكلائها، على شمال سوريا (باستثناء عين العرب ومنبج) من خلال ما يسمى بالحكومة المؤقتة، وعلى شمال غرب سوريا (باستثناء تل رفعت) من خلال الفصائل المسلحة. شكلت هذه المناطق الثلاث جيوبًا متفرقة تحت سيطرة "قوات الحماية الكردية"، وهي ذات المناطق التي هدد إردوغان أخيرًا بالقيام بتوغّل بري داخلها.
في 20 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أعلن سلاح الجو التركي إطلاق عملية جويّة جديدة في سوريا أطلق عليها اسم "المخلب-السيف"، جاءت ردًا على تفجير اسطنبول بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر، حيث اتهمت تركيا "وحدات حماية الشعب الكردية" الذين تصفهم بـ"الانفصاليين الأكراد" بالوقوف خلف الهجوم.
في 28 تشرين الثاني/نوفمبر، أي بعد أسبوع من بدء عملية "المخلب-السيف"، أكد الرئيس التركي عزم تركيا على تشكيل ممر أمني بطول 30 كيلومتر على طول الحدود الجنوبية مع سوريا. وفي وقت لاحق، هددت تركيا بتوغل بري على أماكن تواجد "وحدات الحماية الكردية" في المناطق الثلاث.
تجزئة البلاد هي حالة راهنة غير مستقرة، وهي خاضعة لتحقيق "رؤية قرن" تركيا
اليوم الأمر مختلف
في السابق، كان تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات أميركية على تركيا والحث المستمر من قبل روسيا للتريث كافيين لوقف التهديدات التركية. لكن الأمر مختلف اليوم.
اليوم، لم تعد تصريحات اللاعبين الدوليين التي تنتقد خطط تركيا قوية بما يكفي لردعها عن تنفيذ الهجوم. إذا قرر إردوغان غزو سوريا، فمن المشكوك فيه أن تقف روسيا – حليف الحكومة السورية – في طريقه هذه المرة. إذ إن الحرب الروسية-الأوكرانية التي تحتل الأولوية في الملفات الخارجية لروسيا عدّلت قوة الضغط الذي مورس سابقًا على أنقرة. كما أن عدم انضمام تركيا إلى العقوبات المفروضة على روسيا شكّل ركيزة اقتصادية مهمة لروسيا. وساعدت العلاقات الجيدة بين إردوغان وبوتين على أن تؤتي صفقة الحبوب بين روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة ثمارها.
أما بالنسبة للولايات المتحدة – حليفة الأكراد و"عدو تركيا التاريخي" – فإن الحرب في أوكرانيا جعلتها أيضًا أقل استعدادًا لتحدي أنقرة بشأن الهجوم البري ضد شركائها، حيث قدمت تركيا مساعدات عسكرية لأوكرانيا، لا سيما الطائرات المسيرة التي غيرت قواعد اللعبة وساهمت بشكل كبير في تحقيق أوكرانيا إنجازات عسكرية مطلع الحرب. ولهذا تسعى الولايات المتحدة غالبًا إلى تحقيق التوازن في التعامل مع تركيا، وليس المواجهة.
وبصفتها عضوًا في حلف "الناتو"، لم تمنح تركيا كلًا من السويد وفنلندا مباركتها الكاملة للانضمام إلى "الناتو"، على أرضية ما تعتبره تساهلًا مع الجماعات المسلحة الكردية.
أمام هذه المعطيات، يبدو أن التوقيت مناسب لبدء تركيا عملية برية داخل الأراضي السورية، إذ إنها تجد نفسها اليوم في مكان يمكّنها من استغلال المعطيات لمصلحتها، وبالتالي تحقيق هدفها في إطلاق بداية قوية للقرن الجديد. يقول رئيس حزب "العدالة والتنمية" في وثيقة قرن تركيا: "في الوقت الذي يواجه فيه العالم تحديات جديدة وملحة، نريد أن نبدأ بداية قوية للقرن الجديد لجمهوريتنا مع قرن تركيا".
مستقبل سوريا... تقسيم بمسميات مختلفة
من خلال احتلال أراضٍ سورية جديدة (تل رفعت وعين العرب ومنبج) سيتشكل حيز جغرافي تحت سيطرة تركيا بالكامل بطول أكثر من ثلثي الحدود وعمق يتراوح بين 30 و40 كلم على حدودها الجنوبية، وعمق أكبر من ذلك بكثير في شمال غرب سوريا (محافظة إدلب). تمثل هذه الأراضي أكبر بصمة تركية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1918، ويخشى أن تكبر هذه المساحات، حيث أخبر إردوغان أعضاء البرلمان في حزيران/يونيو المنصرم أنه يخطط لـ"مرحلة جديدة" من هدفه المتمثل بإنشاء "منطقة آمنة بعمق 30 كم من الحدود لطرد المسلحين الأكراد من منبج"، على أن يفعل "الشيء نفسه مع المناطق الأخرى خطوة بخطوة".
إنه مشهد يعكس دور تركيا المتعمق في تشكيل مستقبل سوريا، منذ أن توغلت الدبابات التركية لأول مرة قبل ست سنوات.
فهل ستكون سيطرة تركيا على تل رفعت وعين العرب ومنبج، هي بداية تشكل مستقبل سوريا رسميًا؟
بعد أكثر من أحد عشر عامًا من بداية الصراع في سوريا، تظهر حقيقة مروعة للسوريين مفادها أن الخريطة الحالية في سوريا ليست إلا تقسيمًا بمسميات مختلفة، "منطقة عازلة أو آمنة"، وهي فعليًا احتلال تركي موصوف للشمال السوري، و"حكم ذاتي" في منطقة شمال شرق سوريا الغنية بالثروات النفطية والموارد الطبيعية.
في جميع الحالات والمسميات، فإن تجزئة البلاد حالة راهنة غير مستقرة، خاضعة لتحقيق "رؤية قرن" تركيا الذي على ما يبدو أن العمل بها بدأ عام 2016، وسينتهي قبل انتخابات تركيا في حزيران/يونيو 2023، لتكون الضامن لنجاح إردوغان وحزبه في الانتخابات.
هل ستسمح الحكومة السورية بهذا التقسيم وتغيير نسيج الدولة؟ وهل ستتحالف مع "قوات سوريا الديمقراطية" لمواجهة أي هجوم تركي محتمل تحقيقًا لمصالح متبادلة؟ أم ستبقى بانتظار التوافقات الدولية، والتي ستبقي سوريا منطقة حروب بالوكالة على حدودها الشمالية؟
سنرى ما يخبئه المستقبل.