في ظَهيرة يوم تموزي شديد الحر من العام 2005، تردد وقع خطوات بطيئة على الدرج المُفضي إلى قاعة مدرسيّة مُهملة تتدرّب فيها فرقة مسرحيّة شابة في مدينة حلب. يُطلّ أحد أعضاء الفرقة ليُعرّف من هو صاحب الخطوات، ويعود ليخبر زملاءه: "الأستاذ عبد الفتاح". يدخل القاعة رجلٌ سبعيني مُبتسم، يُلقي التحية بتواضع، ويتناول بلهفة كأس الماء البارد الذي قُدّم إليه. يشربه بامتنان، ثم يقول: "يالله، كملو شغلكن، جاي مشان أتفرج عليكن، مو مشان أعطلكن".
بعدها بثمانية عشر عامًا، وفي ليلة تموزية شديد الحر، توفي عبد الفتاح روّاس قلعه جي. قد يجوز القول هنا: "توفي أخيرًا"، ولو أن التعبير غريب في سياق مقالة حول رحيل واحد من أغزر الأدباء السوريين إنتاجًا منذ الاستقلال. غير أنّ واقع السنوات الأخيرة في حياة الراحل يُحيل إلى المقولة الشعبية الدارجة "مات وارتاح". إذ أمضى الرجل العقد الأخير من عمره في ظروف صحيّة ونفسيّة مترديّة، وسط إهمال رسمي يبدو سِمة سورية لافتة في التعامل مع أرباب الفكر على وجه الخصوص.
على وقع نيران المعارك، اضطر الراحل إلى النزوح من منطقة حلبية إلى أخرى مرات عديدة، إحداها كانت عقب نجاته مصابًا بكسور ورضوض من بين أنقاض منزل ابنه في "شارع النيل" إثر استهداف الحي بقذائف الهاون و"مدافع جهنّم". قبل سنوات تساءل الراحل: "هل تعرفون معنى النزوح؟"، وأضاف شارحًا من زاويته: "مؤلفاتي كلها وعددها سبعة وأربعون عدا بعض البحوث المنشورة في الدوريات، أضعها في كراتين تحت الطاولة في المتر المربع الذي أشغله، أما جهاز الكومبيوتر الذي لا غنى عنه فهو فوق الطاولة، وفوق الجميع يُطل الله ويراقب".
لم تُفكر جهة في ترتيب ظروف حياة أقل قسوة للرجل، فهو ليس "رفيقًا قياديًّا"، ولا مسؤولًا سابقًا، ولا "من عظام رقبة" أحد
لو كان "الاهتمامُ" يُحسب بالكلمات والاحتفاءات المنبرية، لأمكننا القول إنّ قلعه جي حظي بشيء من اهتمام المؤسسات الثقافية الرسمية طبعًا. إذ مُنح "جائزة الدولة التقديرية" في العام 2015، وسافر إلى دمشق لتسلمّها بساق مكسورة وعكّاز، كما "كُرّم" في حلب عبر "ندوات"، وكلمات، وخُطب، كانت تنتهي ـــ كالعادة ـــ بعودته إلى حياة الشقاء والإهمال، وانعدام أساسيات الحياة، يُطلق زفرات بين وقت وآخر عبر صفحته على موقع "فيسبوك" يشكو البرد حينًا، والظلام وانقطاع الكهرباء أحيانًا، من دون أن يتوقف عن الكتابة.
كان قد "زَفر" قبل بضعة شهور من رحيله: "أعيش وحيدًا، أحس بالوحدة والوحشة والغربة عن نفسي والمجتمع، أسهر وأكتب على ضوء لدّات بطارية ميتة. لدي سبع مسرحيات، وأربعة كتب جاهزة مخطوطة تنتظر ناشرًا، يبدو أنه يجب أن أبدأ عملًا جديدًا لأتخفف من البرد والكآبة. أصدقائي في البلدان العربية يظنون أنني أعيش سعيدًا ميسورًا ولدي مكتب ومدير أعمال".
بالطبع لم يُفكر مسؤول، أو جهة في ترتيب ظروف حياة أقل قسوة للرجل، فهو ليس "رفيقًا قياديًّا"، ولا مسؤولًا سابقًا، ولا "من عظام رقبة" أحد، ولم يكن على امتداد سنواته الخمسة والثمانين محسوبًا إلا على الدأب والكدح، والكتابة بمختلف صنوفها.
وُلد الراحل في حي الكلاسة الشعبي بحلب العام 1938، تخرج من دار المعلمين سنة 1956، ثم تابع دراسته الجامعية في كلية التربية لمدة عامين، قبل أن ينطلق إلى جامعة دمشق، ليحصل منها على إجازة في اللغة العربية وآدابها العام 1965. عمل مدرسًا في مدارس حلب نحو ربع قرن، ثم نُدب إلى العمل في مكتب الحبوب، وبعدها في إذاعة حلب، قبل أن يُعاد إلى مديرية التربية مديرًا للمكتب الصحفي، فمديرًا لمكتبة المديرية.
كان شديد الالتصاق بالفرق المسرحية الشابة في حلب، وحريصًا على تلبية أي دعوة تُوجه إليه من فرق الهواة
كان قلعه جي مجرّبًا من طراز رفيع، وواحدًا من أبرز ثلاثة مجرّبين في المنتج السردي المعاصر في حلب (إلى جانب الراحل وليد إخلاصي، ومحمد أبو معتوق). تنوع نتاجه الأدبي بين الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، والدراما، والدراسات والنقد، والتحقيق، والمسرح الذي نال النصيب الأكبر من اهتمامه، ليترك وراءه نتاجًا ضخمًا قوامه 54 كتابًا، و99 مسرحيّة (نعم، العدد صحيح!)، والعديد من المسلسلات الإذاعيّة، والتلفزيونية، وعشرات الدراسات النقدية والأبحاث المنشورة في صحف ومجلات مُحكّمة.
وبرغم أن نصيبه من الشهرة "الجماهيرية" لم يكن كبيرًا، فإنّ اسم عبد الفتاح روّاس قلعه جي يُعد علامة فارقة لدى المشتغلين والشغوفين بالمسرح العربي في العقود الخمسة الأخيرة، إن بفضل غزارة إنتاجه، أو لغِنى إسهاماته النقدية، أو حضوره المتكرر في العديد من لجان التحكيم في المهرجانات المسرحية العربية. كان شديد الالتصاق بالفرق المسرحية الشابة في حلب، وحريصًا على تلبية أي دعوة تُوجه إليه من فرق الهواة سواء لحضور العروض المسرحية، أو التدريبات والبروفات وتقديم الآراء والملاحظات بإخلاص وتواضع شديدين.
على تنوّع صنوف أدبه، يبرز اهتمامان أساسيان في معظم ما قدّمه: التراث والبناء على حكايات التاريخ (كما في مسرحيتي "اختفاء وسقوط شهريار"، و"ليلة الحجّاج الأخيرة")، والتصوّف (مسرحيات: "سيد الوقت السهروردي"، و"النسيمي – هو الذي رأى الطريق"، و"جلال الدين الرومي"، و"صعود العاشق"، والأخير نصّ مسرحي من أعذب أعماله)، فضلًا عن انشغال بعض نصوصه المسرحيّة بالعوالم النفسية للكائن البشري في أسلوب استلهم في مطارح كثيرة طليعيّة صموئيل بيكيت (كما في مسرحية "طفل زائد عن الحاجة").
كذلك؛ حضرت "القضايا السياسية الكبرى" في مسرح قلعه جي (كما في "الملوك يصبون القهوة")، وهو أمرٌ يقول عنه في حوار سابق معه "نحن جيل شهد ثلاث حروب عربية إسرائيلية بانكساراتها وبوارق الأمل الخادعة، وكنا ننهض من رماد الانكسارات لنعيد بناء الثقة من جديد منطلقين من إيماننا بضرورة الدفاع عن وجودنا، وكان التأصيل لمسرح ذي خصوصية عربية، والحفاظ على الهوية والشخصية، سبيلنا لتحقيق الوجود، كنا مسلحين بتراث عصيٍّ على الهزيمة، وبإيمان بالقيم الكبرى وإن تعددت اتجاهاتنا ومشاربنا".
ماذا حصل بعد ذلك؟ هل تغيرت الرؤى واختلفت زاوية النظر؟ قد نجد جوابًا غير مباشر في مسرحية قلعه جي "مدينة من قش"، التي تقدّم لنا نموذجًا من المدن المهترئة التي أكلها الفساد حتى صارت "مدينة من قشّ"، يكفيها عود ثقاب كي تحترق.