آكلو البطاطا

عن لوحة "آكلو البطاطا" لفان كوخ، وعن البطاطا في سوريا.. وعن فلسطين.

"إذا كيلو البطاطا صار بـ 7,000". هذا ما يخبرني به أهلي في سوريا. أترك الهاتف جانبًا وأغرق في تساؤلات عبثية: إذا كان متوسط الدخل الشهري للمواطن السوري مئتي ألف ليرة سورية، فكيف يتدبر السوريون أمرهم؟ وماذا يأكلون؟

كانت البطاطا، ولا تزال كما يبدو، هي معيار جودة الحياة في سوريا. ولطالما كانت رمزًا للفقراء الذين لا تخلو موائدهم من البطاطا بأشكالها كافة. وقد اعتادت العائلات السورية أن تشتري البطاطا بالشوال، لأنها طبق شبه يومي.

حين وصلتُ إلى ألمانيا، لاحظتُ أن المطبخ الألماني متواضع، ويعتمد على وجود البطاطا في وجباته القليلة. ثم عرفتُ أن الشعب الألماني، شأنه شأن سائر الشعوب الأوروبية، كان يعتمد على البطاطا خلال الحرب، فيقوم بصنع وجبة منها، وفي اليوم التالي يصنع من قشورها وجبة أخرى.

قلتُ في نفسي: يا لها من شعوب جبارة! غير أنّي لم أستطع أن أتخيّل نفسي أو أتخيّل سوريًا واحدًا يمكنه الاعتماد في غذائه على قشور البطاطا. تخبرني صديقتي أنّ عدد الذين ينبشون بقايا الطعام من حاويات القمامة ازداد كثيرًا، فأُصاب بالخرس! ولأنّي مضطرة إلى تناول البطاطا بشكل يومي لعارض صحيّ ألمّ بي، فالأمر لا يخلو من غصة في كل لقمة.

سياسة البطاطا الواحدة

دُعيت عام 2008 إلى مهرجان شعري في هولندا. وفي إطار الفعاليات التي نظّمها المشرفون على المهرجان، قمنا بزيارة متحف فان كوخ. أوصلَنا مدير المهرجان عند الساعة الثانية عشرة إلى المتحف، وقال: سوف أعود في السادسة مساء لاصطحابكم إلى العشاء. شعرتُ وقتها بالصدمة: كيف سأقضي ست ساعات في متحف؟ أنا التي لا أحب المتاحف! غير أنّي قلتُ لنفسي: سوف أمرّ على اللوحات سريعًا ثم أذهب إلى مقهىً قريب وأنتظر حلول الساعة السادسة.

لم أكن أعرف كثيرًا عن فان كوخ، وبالكاد رأيتُ لوحتين أو ثلاث كانت إحداها لوحة عباد الشمس. مررتُ على اللوحات بسرعة، وفي طريقي رأيت أطفالًا صغارًا يفترشون الأرض أمام لوحة فيما مدرّستهم تتحدث معهم؛ كانت لوحة "آكلو البطاطا". أعترف أنّي يومها لم أهتم باللوحة بقدر اهتمامي بالطريقة التي يعمل من خلالها الأوربيون على تنمية مواهب أبنائهم. كل ما كان يجول في تفكيري يومها هي حصص مادة الرسم التي تلقيناها في مدارسنا.

كنتُ، على الدوام، فاشلة في الرسم، شأني شأن كثيرين من أبناء قريتي. نرسم لوحة واحدة تحوي جبالًا ينحدر منها نهر، وعلى جانبيه أشجار سرو وبيت بسقف قرميدي أحمر. لوحة تكررت في حصص الرسم كلها وعلى مدار سنواتي الدراسية. لم يقدّم مدرّسونا أي معلومة عن الفنّ وتاريخه أو يعرّفونا بأسماء فنانين.

لم يُرد فان كوخ من أحد أن يُعجب باللوحة من دون أن يعرف سبب قيامه برسمها

كانت معلمة الرسم تدخل إلى الصف حاملة سيجارة بين أصابعها وتقطيبة بين حاجبيها. ما زلت أشعر بالخوف كلما تذكّرت ملامحها إذ تطلب منا إخراج دفاتر الرسم والألوان الخشبية والبدء برسم اللوحة اليتيمة. وفي أحيان أخرى، كانت حصة الرسم تختلط بالموسيقى، فتطلب المعلمة من بعض الطلاب أن يغنوا.

لطالما فكرت: ألم يكن ذلك من تبعات سياسة الحزب الواحد؟ اللوحة الموحدة، واللباس العسكري الموحد، والهتاف الأبدي الواحد!

في الوقت نفسه، كانت تلك الوجبة الموحّدة تحضر في بيوت السوريين: بطاطا مسلوقة وشوربة عدس. تلك الوجبة التي كانت بمثابة عقوبة بالنسبة إليّ. غير أن أختي الكبيرة كانت بارعة في إعادة تدوير البطاطا المسلوقة، فتارة تخلطها مع الطحينة، وأحيانًا تقوم بتقطيعها إلى مكعبات وتضيف إليها الثوم والكزبرة والفليفلة لتصبح بطاطا حرّة، أو تضيف إليها البيض لتجعل منها مفرّكة. هكذا يمضي الأسبوع ونحن نتناول البطاطا، ولا شيء غيرها. وتنتقل معي البطاطا المسلوقة والمفرّكة إلى المدينة الجامعية حيث أسكن، فتغدو الوجبة الوحيدة التي تتسيد المائدة.

اعتاد كثير من السوريين أن يأكلوا البطاطا بالخبز كي يشعروا بالشبع، وهو أمر أثار دهشة إحدى الشاعرات الفرنسيات التي التقيتها في مهرجان لوديف في فرنسا 2009: "أنتم تأكلون البطاطا بيوريه بالخبز!". لم يكن لديّ الوقت ولا الرغبة بسرد تاريخ الجوع في سوريا لها.

لوحة فان كوخ

تعود لوحة "آكلو البطاطا" لتظهر لي في درس اللغة الألمانية الذي يتحدث عن أهمية البطاطا في حياة الشعوب الأوربية. إذ حدثت مجاعة كبرى في إيرلندا بين عامي 1845 و1852، سُمّيت مجاعة البطاطا الإيرلندية، وتسببت بوفاة مليون إنسان وهاجر بسببها مليون آخرون. ذلك أن محصول البطاطا الذي كان كثير من فقراء إيرلندا يعتمدون عليه، أُصيب بآفة زراعية اسمها اللفحة المتأخرة وتسببت بتلفه، ليس في إيرلندا فحسب بل في جميع أنحاء أوروبا. ويُقال إن المجاعة هذه كانت نقطة فاصلة في تاريخ إيرلندا، إذ غيرت المشهد السكاني والسياسي والثقافي فيها إلى الأبد. وقد تناول بعض الرسامين الإيرلنديين تلك المجاعة في أعمالهم، مثل جيمس ماهوني (1810-1879). غير أن لوحة "آكلو البطاطا" للرسام الهولندي فان كوخ (1885) كانت أشهر اللوحات التي تصوّر حياة الفقراء واعتمادهم على البطاطا.

سكنتني اللوحة. وقررتُ الذهاب لرؤيتها مرة ثانية.

كان لابدَّ أن نحجز موعدًا للتجول في متحف فان كوخ قبل ثلاثة أيام، وثمن بطاقة الدخول ليس بالقليل، ومدة الزيارة ساعتان.

يا للشبه بين اللوحة وحياة السوريين في قرانا في أوائل الثمانينيات

دخلت إلى المتحف. ثمة شاشة كبيرة تعرض اللوحات على التوالي. وفي كل طابق، يمكنك متابعة تطور أعمال فان كوخ، من البورتريهات الأولى إلى اللوحات الشهيرة. سارعتُ في الوصول إلى لوحة "آكلو البطاطا".

طاولة مستديرة يتوسّطها صحن بطاطا كبير، ويتحلق حولها خمسة فلاحين أيديهم خشنة ومتسخة وعظامهم بارزة. يعلوهم قنديل زيت، وثمة امرأة تصب القهوة أو الشاي. تبدو ملامح وجوههم قاسية، وفي عيونهم الغائرة نلمح الخوف والتعب. يرتدون ثيابهم كاملة، كما لو أنهم عائدون للتو من الحقل. ويبدو البيت قديمًا ومتهالكًا وباردًا. يُقال إن فان كوخ استخدم خمسة ألوان فحسب في اللوحة، هي الرمادي والبني والأخضر الزيتي والأصفر والترابي. كأن هؤلاء الفلاحين نهضوا من التراب ولم ينفضوا بقاياه عن ثيابهم. كم تعكس ألوان هذه اللوحة الحياة القاتمة التي يعيشها هؤلاء الفلاحون! ثمة لوحات جانبية لكل فرد من أفراد العائلة مرسوم على حدة، تستطيع أن تدقق في ملامح وجهه أكثر.

The Potato Eaters © Van Gogh Museum

كان الفلاح في القرن التاسع عشر يعمل طيلة النهار مقابل وجبتين من الطعام، ولا يملك الحق في إجازة أسبوعية أو ضمان صحي. قال فان كوخ إنه يريد تصوير الفلاحين كما هم. فاختار عينة خشنة الملامح وأضاف: "كما ترون، أردتُ تخليد تلك اللحظة، لحظة هؤلاء الناس وهم يأكلون البطاطا تحت ضوء مصابيحهم الصغيرة، بأيديهم الخشنة التي يزرعون الأرض بها، مطمئنين إلى أنهم حصلوا على طعامهم بأمانة. تخلّد هذه اللوحة نمط عيش مختلف كليًا عن النمط الحضاري. لذلك، لا أريد من أحد أن يُعجب باللوحة من دون أن يعرف لماذا قمت برسمها".

يا لقُبح لوحة العالم

يا للشبه بين اللوحة وحياة السوريين في قرانا في أوائل الثمانينيات. تلك البيوت الطينية التي كان يتوسطها عمود خشبي يدعى الساموك على وجه الخصوص. لكنّ الفارق هنا أن الكثير من العائلات السورية لم تكن تملك طاولة تجلس إليها. بل كان هناك طبق قشٍّ مدوّر يوضع فيه صحن بطاطا مسلوق ويُضاف إليه زيت الزيتون، وبجانبه شوربة العدس وبضع بصلات يابسة وخبز تنور، وإبريق شاي، ويعلقون على الجدار قنديل كاز شحيح.

لطالما اعتاد أهل قريتي على ارتداء الملابس نفسها في الحقل والبيت. لم يكن لديهم ترف التبديل. كان الفارق بيننا وبين لوحة فان كوخ مئة عام فحسب.

لكن اللوحة اليوم في سوريا عام 2024 تبدو أشدّ قتامة. إذ ليس بمقدور الأسرة السورية توفير البطاطا بشكل يومي. وفي ظلّ أزمات الطاقة من غاز وكهرباء، قد لا يكون بمقدورهم طهوها. كما ارتفع سعر الخبز، وعادت أسر كثيرة لاستخدام قنديل الكاز.

أخرج من المتحف، وفي رأسي عشرات الأسئلة. ثمة فنان عظيم لم ينل في حياته من الشهرة والمال ما يستحق، ومات منتحرًا. رسم لوحة هي الأشهر عن حياة الفقراء، ومتحفه لا يستطيع أن يؤمه الفقراء. يجذب المتحف ملايين الزوار ويجني ملايين الدولارات، فيما العالم يعج بالمجاعات والحروب.

ما الجدوى من الفن إن كان لا يستطيع إطعام صاحبه؟ ما الجدوى من الفن إن كان لا يستطيع أن يمنع حربًا أو يحمي طفلًا؟ ما جدوى الشعر والكتابة والعالم يسقط في هاوية أخلاقية!

تقول الأخبار إن الفلسطينيين في غزة يأكلون علف الحيوانات، ولا يجدون ماء صالحًا للشرب. يا لقبح لوحة العالم الآن!

الفرح ليس مهنة الشعراء

كلما خرجت مجموعة شعرية جديدة لي من المطبعة، أفرح ثم أتذكر أن هذه المجموعة صدرت في حين أن سوريين كثر..

هنادي زرقة
شجر الزيتون يبكي

أيمكن، حقًّا، أن يتكيّف الزيتون مع طقس ألمانيا، ويثمر بعد أجيال؟ أيُمكن للهندسة الوراثية أن تعدّل في..

هنادي زرقة
رماد في قارورة

أثمّة حنان يسري في تراب الوطن ولا يسري في تراب الغرباء؟ ما هذه الرَّمْنَسَة للموت؟ ما هذه الغربة المقلقة..

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة