Image Credit: Marwan Tahtah/Getty Images
وجد حسين عملًا في بيروت في حزيران/ يونيو 2021، ما حتّم عليه الانتقال للسكن في منطقة فرن الشباك. بدأ عملية بحث مضنية عن شقة صغيرة، وفوجئ بالأسعار التي تبدأ بـ 200 دولار. لم يكن الراتب الذي يتقاضاه كبيرًا، فاضطر إلى البحث عن منزل لا يتجاوز إيجاره المليون ليرة لبنانية. وجد غرفة صغيرة، أشبه بزنزانة، مقسومة عبر فاصل خشبي. القسم الأعلى منها يحوي سريرًا، والقسم الأدنى فيه أريكة، فيما الحمام صغير إلى حد يكاد يصعب معه الوقوف فيه. أما البدل المطلوب، فبلغ مليونًا ونصف المليون ليرة. فما كان منه سوى أن استسلم وتوجّه للسكن عند شقيقه مؤقتًا. بعد أشهر، وجد حسين وظيفة أخرى في الجامعة الأميركية في بيروت، وبات عليه العثور على مسكن في منطقة رأس بيروت. بحث في الحمرا ومار الياس والظريف، لكن الإيجارات كلها كانت قد أصبحت بالدولار، ما يعني أن نصف معاشه كان سيُستهلك لتغطية تكاليف السكن. ثم، بعد عرض واقعه أمام المشرفين عليه في الجامعة، وافق هؤلاء على أن يعمل عن بُعد، فعاد أدراجه إلى منطقة البقاع، بعدما فقد كلّ أمل في السكن في بيروت.
بيروت تلفظ شبابها
بات السكن في بيروت أمرًا عصيًا على الكثير من شباب المدينة، في ظل انهيار الاقتصاد والعملة ومعهما شتّى نواحي الحياة، علمًا بأن الكثير من الشبان والشبات يجدون أنفسهم مضطرين للانتقال إلى العاصمة ومحيطها، بسبب مركزية العمل والمؤسسات الرسمية والخاصة أو موجبات التعليم الجامعي. وبحسب إدارة "الإحصاء المركزي" التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، بلغت نسبة التضخم في الإيجارات بين 2013 والربع الأول من 2019، 0.07 في المئة، ثم ارتفعت باضطراد حتى وصلت إلى 0.50 في المئة في الربع الأخير من العام. وقد فاقت نسبة ارتفاع الإيجارات الجديدة تلك الخاصة بالإيجارات القديمة، حيث بلغت النسبة في الربع الأول من عام 2019، 1.20 في المئة للإيجارات الجديدة، مقابل 0.40 في المئة للإيجارات القديمة. أما السبب فيعود إلى أن عقد المستأجر القديم غير قابل للتعديل بسهولة، وبإمكانه أن يورّثه حتى انتهاء مدة العقد، فيما العقود الجديدة أشبه باستثمار، ويمكن بالتالي تغيير المستأجرين أو رفع بدلات الإيجار.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، انفجرت الأزمة الاقتصادية في لبنان ودخلت البلاد في مرحلة من السقوط الحر. خسرت العملة حتى اليوم نحو 94 في المئة من قيمتها، وانعكس الأمر على الإيجارات. فبحسب "الإحصاء المركزي"، ارتفعت الإيجارات القديمة بين أواخر 2018 و2021 بنسبة 25 في المئة، بينما ارتفعت الإيجارات الجديدة بنسبة 16 في المئة. هذه الأرقام تعكس الواقع حين كانت بدلات الإيجار تُدفع بالليرة اللبنانية، علمًا بأنها اليوم تحوّلت إلى الدولار الأميركي في حالات كثيرة بسبب عدم ثبات العملة المحلية.
مجتمع الملكية
تشير دراسة "مشاكل السكن، الأرض والملكية في لبنان" من إعداد UN-Habitat والاتحاد الأوروبي والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، عام 2014، إلى أن 46.7 في المئة من المالكين اللبنانيين اشتروا منازلهم من مدخراتهم. وبلغت نسبة التملك في جبل لبنان عام 2004 بحسب الدراسة، 65 في المئة، وفي المناطق الواقعة في الأطراف 85 في المئة. أما في بيروت، فتساوت تقريبًا نسبة المتسأجرين والمالكين، حيث بلغت نسبة المالكين 43 في المئة والمستأجرين 49 في المئة.
وقد تحوّل نمط السكن في لبنان، خصوصًا بعد انتهاء الحرب الأهلية، إلى التملك، حيث يخلق الأخير شعورًا بالأمان والاستقرار. وعزّزت السياسات المالية والنقدية التي اعتُمدت في حكومات ما بعد الطائف هذا النمط، الذي شهدت البلاد معه تضخمًا في القطاع العقاري. وبحسب رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الاميركية د. غسان ديبة، فإن التضخم هذا أتى نتيجة خمسة عوامل رئيسية: - أولًا، شهدت التسعينيات إطلاق عملية إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب الأهلية. ومن المعلوم أن الاقتصادات تشهد نموًا مرتفعًا خلال هذه المرحلة، خصوصًا في قطاع البناء، وذلك بسبب الدمار ومتطلبات النمو الاقتصادي المستجد. - ثانيًا، حصل نمو سكاني بعد توقّف أسباب النزف السكاني نتيجة الحرب والهجرة، وهو ما حفّز على البناء نتيجة الطلب المتزايد عليه. - ثالثًا، مع عودة المصارف وتدفق الرساميل إلى لبنان من الخارج، توفّرت سيولة نقدية حوّلت المصارف جزءًا منها لتمويل السوق العقاري والقروض السكنية. - رابعًا، عاد اهتمام المغتربين والأجانب بالسوق العقاري في لبنان مع حلول السلم الاهلي، علمًا بأن الاستثمارات العربية في العقارات كانت مستمرة حتى خلال الحرب. - خامسًا، تشكلت رأسمالية جديدة في لبنان ارتكزت على الاقتصاد الريعي، وساهمت بتحويل الموارد إلى الدين العام والقطاع العقاري بدلًا من القطاعات الإنتاجية.
وسط بيروت المدمّر بعد الحرب الأهلية (Marc Deville/Getty Images)
لم تكن طفرة التسعينيات وحيدة، إذ بعد حرب تموز 2006، شهد قطاع العقارات ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الشقق لثلاثة أسباب شبيهة بتلك المذكورة آنفًا. فبحسب ديبة، انتهت فورة التسعينيات بأزمة بعد عام 1998، وحصل ركود عقاري لمدة عشر سنوات، وهو ما "أتاح انطلاق موجة جديدة من الاستثمار العقاري بعد فترة الركود هذه وتراكم الطلب لسنوات، كما حصلت نقلة كبرى في تدفق رؤوس الأموال من الخارج، واتجه رأس المال مرة أخرى إلى الربح السريع. وتجذر مفهوم مجتمع الملكية، بمعنى أنه نشأت عند اللبنانيين نزعة لتفضيل الملكية على الإيجار، وهو ما زاد الطلب على العقارات والشقق، وقوبل هذا الطلب برزم الحوافز لتمويل القروض السكنية والاستثمارات العقارية عبر برامج مصرف الإسكان، ومصرف لبنان، والمؤسسة العامة للاسكان، والمصارف التجارية".
وسبق هذا الارتفاع تعديلًا على الأجور عام 2012. وعليه، لم يعد باستطاعة الموظفين والعاملين بالحد الأدنى تملك شقة، وقد اختلفت أسعار الشقق في بيروت وضواحيها بحسب الأحياء والمساحة والنوعية بطبيعة الحال. علمًا بأن أقساط القروض السكنية، بحسب ديبة، أصبحت تشكل جزءًا كبيرًا من ميزانيات الأسر، ما أثر على قدرتها على الإنفاق في مجالات أخرى مثل التعليم والصحة والترفيه وغيرها.
السكن مقابل "الفريش"
إثر الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، فقد معظم اللبنانيين القدرة على التملك في بيروت، وبات البحث عن شقق للإيجار هو التوجه الغالب لديهم. هنا وجد أصحاب الريوع العقارية أنفسهم في موقع قوة أمام الجموع المهرولة، واندفع الكثير منهم إلى التسعير بالدولار. حصل هذا بالتوازي مع غياب الضرائب على الشقق الفارغة، وهو ما شكّل، مع ارتفاع أسعار الشقق، سببًا رئيسيًا لارتفاع نسبة الشغور، وضعف قدرة الشباب على السكن في العاصمة. ويمكن لمتصفّح موقع Property Finder أن يلاحظ أن بدل إيجار الشقق في بيروت يتراوح بين 150$ و2500$ لشقة من غرفة نوم واحدة، وبين 250$ و5000$ لشقة من غرفتي نوم. وبرغم أن الشقق المعروضة على الموقع لا تمثّل عيّنة تمثيلية لمعروضات الإيجار في بيروت بشكل عام، إلا أن الأرقام المذكورة تظهر تحوّلًا مضطردًا نحو دَولرة الإيجارات.
والمفارقة، كما يقول ديبة، أن الانهيار النقدي قلب الأمور رأسًا على عقب، حيث كان ذا أثر إيجابي على التملك. إذ إن قيمة القروض السكنية تراجعت، وهو ما مكّن كثيرين من تسديدها بتكلفة أقل بكثير، ما خفّف من ضغط هذه القروض على ميزانيات الأسر، وسمح للمقترضين بالحصول على ملكية نهائية لمساكنهم. في المقابل، فإن الأمر مختلف في موضوع الإيجارات، حيث يواجه طالبو السكن الجُدد معضلة تتمثل بتوقف القروض المصرفية. وتجدر الإشارة إلى أن معظم النسيج العمراني لبيروت اكتمل قبل عام 1992، وفق ما تُظهر دراسة لاستوديو "أشغال عامة". أما بعد هذا التاريخ، فلم تزد نسبة المباني الجديدة في منطقة مار مخايل عن 3.50%، في مقابل 18% في منطقة المصيطبة، و23% في منطقة الطريق الجديدة والباشورة، و22% في منطقة رأس بيروت. بينما بلغ عدد المباني السكنية التي شُيّدت قبل عام 1992، 221 مبنى في منطقة مار مخايل، في مقابل 289 في المصيطبة، و293 في الطريق الجديدة، و331 في رأس بيروت.
يقدم ديبة حلولًا ممكنة للأزمة. فعلى المدى القصير، يمكن للدولة أن تتدخل عبر فرض ضرائب عالية على الشقق الفارغة، خصوصًا في المدن، وذلك من أجل تحفيز المالكين على تأجيرها، ولو بالعملة اللبنانية. أما على المدى البعيد، فيمكن المباشرة بإطلاق مشاريع سكن اجتماعي، تملكها الدولة أو البلديات. ويضيف قائلًا إن هذا النموذج أثبت جدواه في بعض الدول، بما فيها الأوروبية، كالنمسا على سبيل المثال، خاتمًا بالإشارة إلى أن النظر في نماذج بديلة بات أمرًا ضروريًا، وذلك بسبب انهيار النموذج الاقتصادي القديم ومعه سوق العقارات والقروض، التي لن تكون متاحة على الأغلب على المدى المنظور، وربما المتوسط. * أُنجز هذا التحقيق بدعم من “صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان” Journalists for Human Rights.