عامًا تلو الآخر، يستمرّ ملف اللجوء السوري بفرض نفسه على رأس القضايا الملحّة في الإقليم بأكمله، وأبعد من ذلك في القارة الأوروبية مع تحوله إلى "شأن داخلي" لكثير من دولها. وبات مألوفًا أن يُشار إلى سوريا بوصفها صاحبة واحدة من أكبر أزمات اللجوء في الوقت الراهن، وأحيانًا عبر التاريخ المعاصر، لا سيما مع الأخذ في الاعتبار نسبة اللاجئين والنازحين داخليًّا إلى إجمالي عدد السكان، لتحتل أزمة اللجوء السورية الصدارة بين مثيلاتها في مطلع العام الحالي.
ثمة أسئلة وأفكار عديدة تفرض نفسها على أي مقاربة لراهن هذه الأزمة، واحتمالاتها المستقبلية أكانت استعصاء أم حلولًا، وعلى رأسها سؤال افتراضي قد يبدو عبثيًّا في ظاهره، غير أنّه شديد الأهمية في جوهره: هل تنبع تعقيدات أزمة اللاجئين السوريين في الدرجة الأولى من كونهم لاجئين وطالبي لجوء أو ساعين إليه؟ أم من كونهم سوريين؟ في الحالة الأولى نحن أمام أزمة إنسانيّة صرفة، بينما في الثانية نحن أمام أزمة إنسانية قائمة على حوامل سياسية، وهذه الحوامل هي في الدرجة الأولى ما يحكم التعاطي الدولي، والإقليمي، وحتى القُطري (من بلد إلى آخر) معها.
في العام 2012، كان باحث سوري وازن يؤكد في إطار نقاش مُغلق غير رسمي أنّ "ما يُعدّ للسوريين يفوق أي تصور، وقد يُنافس ما يعيشه الفلسطينيون"، وتضمنت تفاصيل كلامه توقعات حول "شتات سوري مديد".
لم ينطلق حديث الباحث من "نظرية المؤامرة"، لا سيما أن الرجل مُعارض، بل تأسّس على قراءةٍ وتصوراتٍ وخلفيّاتِ معلوماتٍ غير رسمية. بالطبع، بدا الكلام وقتذاك ضربًا من المبالغة، غير أن الواقع اليوم يجعله واحدًا من أدق القراءات للحدث السوري. ولسوء الحظ أنه لم يُنشر أو يخرج إلى العلن. ولفهم دقته، يُمكن استعراض بعض الأرقام والإحصاءات سعيًا إلى تكوين تصوّر واضح حول الاختلاف بين واقع "الشتات السوري" وبين أزمات لجوء كبرى أخرى في المنطقة العربية نفسها، وبالتالي في تعزيز فرضية "الخصوصية السورية" النابعة من أسباب سياسية بشكل أساسي.
الأرقام لا تكذب
وفق النسخة الأحدث من تقرير "الاتجاهات العالمية" المعني باللجوء والنزوح القسري، الصادر عن مفوضية شؤون اللاجئين في حزيران/يونيو 2024، "كان أكثر من 117.3 مليون شخص في عداد النازحين قسرًا بحلول نهاية العام 2023"، أي ما نسبته 1.5 % من سكان العالم (واحد من كل 69 شخصًا)، أما عدد اللاجئين حول العالم فبلغ في حينها 43.4 مليون شخص.
يضع التقرير نفسه سوريا في صدارة أزمات اللجوء والتهجير القسري، مع "نحو 13.8 مليون شخص نزحوا قسرًا داخل سوريا وخارجها"، أي ما يقارب نصف عدد السوريين (داخل وخارج البلاد) الذي بلغ وفق "المكتب المركزي للإحصاء" في 2021، استنادًا إلى سجلات الأحوال المدنية، نحو 29 مليون نسمة، فيما عدد اللاجئين السوريين من إجمالي النازحين قسريًا 6.4 مليون شخص، أي ما يفوق 20 % من عدد السوريين.
برغم كثير مما يتردد في تقارير المنظمات المعنية باللجوء وتصريحات مسؤولين أممين، يبدو أن ملف اللجوء السوري سيظل مفتوحًا لسنوات
تتشارك سوريا "الصدارة" في عدد اللاجئين من أبنائها مع أفغانستان، البلد الذي يُسجل وفق تقرير "الاتجاهات" عددًا مماثلًا ــــ 6.4 مليون ــــ مع فارق جوهري مفاده أن عدد سكان أفغانستان يتجاوز 41 مليون نسمة.
وإذا ذهبنا نحو مقارنة المشهد السوري بحال بلد مجاور هو العراق الذي عاش بدوره سنوات طويلة من الفوضى، وعانى من استبداد، وغزو، سنجد أن تقديرات العام 2007 (إحدى فترات ذروة التردي الأمني والاقتصادي) تشير إلى نحو 4.2 مليونًا بين لاجئ ونازح داخليًا، فيما كان عدد العراقيين وقتذاك نحو 28 مليونًا، وهو يقارب عدد السوريين اليوم. أي أن الكفة في موازين المقارنة راجحة بشدة لصالح عدد اللاجئين والنازحين السوريين بثلاثة أَضعاف!
لماذا سوريا أوّلًا؟
لا شك في أن الصراع في سوريا كان (ولا يزال) دمويًّا إلى حدود هائلة، وأمده امتدّ طويلًا، وأن التردي الاقتصادي الذي تعيشه البلاد كارثي ومفتوح على مزيد من التهاوي. غير أن كلًّا من المثالين اللذين نُقارن بهما (أفغانستان، والعراق) عرف بدوره ظروفًا مشابهة من العنف، والتوحش، وحضور التيارات الجهادية التكفيرية، والتدخلات الخارجية، والضغوط الاقتصادية الخانقة، إلخ.
بل إن الظروف ذاتها تكاد تنطبق على معظم دول الأزمات في المنطقة (لا شك في أن الحال مختلفة جذريًّا في أوكرانيا مثلًا، التي بلغ عدد لاجئيها نحو 6 ملايين نسمة من أصل أكثر من 38 مليون مواطن). ومما لا شك فيه أن معظم أزمات اللجوء حول العالم تستند في جزء من تركيبتها إلى مسبّبات وعوامل سياسية.
غير أنّ المختلف ــــ كما أزعم ــــ في الحالة السوريّة، أن العامل السياسي يحظى بنصيب الأسد من بنيوية أزمة اللجوء برمّتها. وهو زعم يمكننا تلمّس مؤشرات دالة عليه بدءًا من تشييد مخيمات للجوء في دول الجوار عقب شهور قليلة من اشتعال الحدث السوري. فمثلًا، أعلنت "المنظمة الدولية للهجرة" أواخر تموز/يوليو 2012 وصول نحو 1000 نازح إلى أول مخيم للاجئين السوريين في الأردن، فيما كان العدد في تركيا وقتذاك يقارب 45 ألف لاجئ. وأرقام "المفوضية العليا للاجئين" تشير إلى أن أكثر من 267 ألف سوري غادروا بلادهم.
ومع التسليم بأن الحدث السوري اتّسم منذ بداياته بالدموية، والقمع العنيف، غير أنّ مقاربة تركيا بشكل خاص، ثم الأردن وأطراف لبنانية لمسألة النزوح، كانت تنطوي على حثٍ وتشجيعٍ كبيرين، مع تقديم تسهيلات يمكن اليوم وصفها بـ"الخادعة" بضمير مرتاح!
في العام 2012، كنت أعمل مراسلًا لصحيفة "السفير" اللبنانية، فانتحلت صفة "هارب من الأمن يبحث عن طريق إلى خارج البلاد". وبالفعل استطعت في بضع ساعات العبور من قارة في ريف دمشق إلى عرسال، وبكلفة لم تتجاوز مئتي ليرة سورية (4 دولارات حينها) هي كلفة المواصلات إلى مدخل قارة. أما بقية الرحلة فكانت كلفتها صفرًا.
أي حديث عن "عودة طوعية" بلا حل سياسي حقيقي، قائم على توافقات سورية ــــ سورية تدعمها أخرى إقليمية ودولية، يظل محض كلام للاستهلاك الإعلامي
بالطبع، سلك آلاف غيري الطريق ذاتها وكانوا في أمس الحاجة إليها، لكن السؤال الجوهري هنا: ألم يعبر كثر الحدود تحت إغراءات بروباغندا إعلامية كثيفة تُبشر بسقوط وشيك للنظام، وبعودة الفاتحين إلى البلاد؟ ثم، وهو الأهم: كيف تحوّلت مقاربات دول وحكومات من اعتبار هذا الملف ورقة في يدها، إلى الإحساس بأنه بات مصدر تهديد؟
المفارقة هنا، أن السلطات السورية بدورها كانت "مرتاحة" على امتداد سنوات لمسارات هذا الملف، مع غض نظر وصل حدّ تسهيل الخروج من البلاد، لا سيما لناشطين بعضهم كان مطلوبًا وممنوعًا من السفر. ولا شك في أن كثيرًا من السوريين يتذكر "كراج ألمانيا"، التسمية التي أُطلقت "بين المزح والجد" على منطقة جسر الثورة وسط العاصمة دمشق في 2015، فمن هناك كانت تنطلق رحلات شبه منظمة تُفضي في المحصلة إلى بلدان اللجوء.
في تلك الفترة، علّق مسؤول سوري أمني رفيع على الموضوع بقوله: "خليهم يسافروا، ويبعتوا عملة صعبة".
ما الذي تغير اليوم؟
برغم كثير مما يتردد في وسائل الإعلام، وتقارير المنظمات المعنية باللجوء، وتصريحات مسؤولين أممين، وحكومات دول شتّى، يبدو أن ملف اللجوء السوري سيظل مفتوحًا لسنوات.
وباستثناء ما تستشعره دول الجوار (بشكل أساسي لبنان، وتركيا بدرجة أقل وإن بدت أضخم) من ضغط كبير ومخاوف قصوى، لا يبدو أن هناك مقاربة جدية لملف عودة السوريين إلى بلادهم.
العلّة هنا أن أسّ الملف سياسي، بينما أدوات حلّه المزعومة تقتصر على أوهام التعاطف الإنساني، وتلك "الورقة" التي سعت دول وحكومات عديدة إلى تهيئتها لاستثمارها لاحقًا (بدءًا من السلطات السورية، وليس انتهاء بالغرب) لم تنضج ظروف استثمارها بعد، وقد لا تنضج أبدًا ما دام الصراع السياسي يراوح في منطقة "خاسر ــــ خاسر"، وطالما أن أيًّا من أطرافه لا يملك القدرة على فرض شروطه كاملة.
ضمن هذه الظروف، لا مصلحة حقيقية لأي طرف بعودة اللاجئين إلى سوريا، بمن في ذلك كثير من اللاجئين السوريين في دول الجوار، خصوصًا أن هؤلاء دفعوا أثمانًا فادحة على امتداد سنوات، وليس من السهل تصوّر أنهم سيضحون بما تكبدوه من أجل العودة إلى بلد كل آفاقه مسدودة، ولا يحظون فيه بأي ضمان، وأي حديث عن "عودة طوعية" بلا حل سياسي حقيقي، قائم على توافقات سورية ــــ سورية تدعمها أخرى إقليمية ودولية، يظل محض كلام للاستهلاك الإعلامي.
يعزز ذلك أن الإجراءات الفعليّة التي اتّخذتها أطراف فاعلة بشكل حقيقي في ملف اللجوء، تكاد تقتصر على إصرار مجتمع "كبار المانحين" الأوروبي بشكل خاص على رشوة حكومات دول الجوار للإبقاء على اللاجئين "رهائن" فيها.
ما مصير إجراءات من هذا النوع؟ وإلى أين قد تُفضي مستقبلًا؟
الجواب ليس سهلًا هنا، لكن قد تقدم الحكاية الصغيرة التالية لمحة عن "أهون الشرور"، وموجز الحكاية أن تقرير التدقيق المالي لمشاريع "مرفق اللاجئين في تركيا" المموّل أوروبيًّا، يخلص إلى أن المرفق كان مفيدًا للاجئين، وينطوي على حثّ الممول الأوروبي على الاستمرار في العمل بالوتيرة ذاتها، مع توصيات بالعمل على الاستدامة بشكل أفضل (انظر هنا).
تتمة الحكاية نجدها في الإعلام التركي، الذي شرع في تسليط الضوء على قصص لاجئين سوريين في تركيا حازوا الجنسية التركية، ثم انطلقوا إلى أوروبا بوصفهم مواطنين أتراكًا، قبل أن يتخلوا هناك عن الجواز التركي، ويتقدموا بطلبات لجوء بوصفهم مواطنين سوريين!