منذ أسابيع وأنا أهيئ نفسي للعودة إلى المدرسة بعد انقطاع دام نحو ثمانية عشر عامًا. حماسة ثم ارتباك ربّما لا مبرر له يحاصرني. ظننت بتبسيط بدايةً أن الأمر عائد إلى كره الالتزام والاستيقاظ المبكر، أو إلى تكرار من هم في محيطي حكمتهم الكسولة: "بعد ما شاب ودّوه الكتّاب".. لكن في عودتي إلى بداياتي وجدت أن الأمر مغاير لذلك قطعًا.
ففي الصف الأول، مثلًا، تماهيتُ مع الرياضيات التي كرهتها لاحقًا. إلا أنّي لم أتماهَ مع "اللغة، أمي"، تلك الحروف التي استطعت أن أقارنها في خيالي بأشياء من الحياة:
الـ ب صحن تحته نقطة، قد تكون جمرة أبدية. الـ ع رجل عجوز بظهر منحنٍ يحاول الوصول إلى بيته ولا يقدر، الـ أ عمود كهرباء يجرّب طيرٌ أن يحط أعلاه، الـ س منشار يتهيأ لقص شجرة مسكينة...
هكذا حاولت، كما أقراني، أن أفهم تلك الكائنات الغريبة أو أقرّبها مني. لكنّي بعد ذلك تعثّرت. إذ مع بدء تجمّع تلك الكائنات المنفصلة واتّصلها ببعضها، راحت تشكّل كلمات أغرب، لا تشبه ما ننطقه في البيت أو الحي، أو حتى بيننا كتلاميذ.
ومما زاد تلك القطيعة داخلي، إحساسي بالسخافة عندما يُطلب مني القراءة والترديد، إلى حد أنّي كرهت صوتي لارتباطه بتلك السخافة التي أُجبرتُ عليها. ففي أثناء القراءة، كنتُ أحسب نفسي قادمًا من فيلم أو مسلسل تاريخي ــــ أنا الذي يبغض التمثيل إلى أبعد الحدود.
لا أدري من أين جاء كل ذلك، لكنّ القواعد فيما بعد كانت القشة التي قصمت أي تماهٍ كان قد يحصل بيني وبين لغتي الأم. إذ لطالما فكّرت؛ ما فائدة كل تلك التصريفات؟ لماذا لا نكتفي بمصادر المفردات فقط؟ هل للغة حدود يُلِمّ بها المرء بعد حين؟
في الصف الخامس، طُلب منا تحديد اللغة الثانية التي سنتعلّمها كلغة رديفة. كانت الخيارات محصورة بين الإنكليزية والفرنسية، كما لو أنّي تقبّلت لغتي لأتمكّن من إدخال غريب آخر إلى ذهني الطفولي.
اخترت دون أدنى حيرة أو تفكير اللغة الإنكليزية، وليحصل ما يحصل. في ذلك الوقت فكّرت: لماذا لا يتحدث سكان الكوكب جميعهم لغة واحدة ويصرفون عنا عناء هذه الفجيعة؟ ومن الأفضل أن تكون اللغة التي نستخدمها في البيت. لكنّ سفينة فكرتي الطفولية كانت من ورق، ومع أول هبّة نسيم غرقت.
ولتزداد غربتي عن اللغة، بدأتُ حينذاك خطواتي الأولى في مسيرة البحث عن ماهية الدين أيضًا، والذي أخذ بداية شكل اللغة فقط. لغة بلا معانٍ مفهومة، عالية، قادمة من الخيال أو وما وراءه...
ربما هذا ما يجذبنا كأطفال إلى الدين، ففي هذا قال لودفيغ فيتغنشتاين في كتابه "في الأخلاق والدين والسحر": "إن غياب المعنى هو ما يشكّل جوهر العبارات الدينية، بما أنها تتجاوز حدود العالم وحدود اللغة ذات المعنى".
لعبة وفضول وخيال زجت بي في عوالم ما وراء الواقع المرّ. وأظنّ أن تلك كانت البذرة الأولى لنبتة القصيدة التي نمت متأخرة فيما بعد.
جذب ودفع، أخذ وردٌّ، هي علاقتي باللغة العربية، إلى أن استعدت أجزاء وطن منها حين ألممت ولو ببعض القصيدة
استمرّت قطيعتي مع اللغة عمومًا برغم تأثري الواضح بها وبالمخيال. قطيعة الغريب عن الغريب الذي شكّلته لغته الأم.. قطيعة استمرت طويلًا إلى أن فررت هاربًا إلى تركيا.
حينذاك صُدمت مرة أخرى بلغة جديدة كليًا، لم تخضع حتى لمعالجة مخيّلتي. حروفٌ وكلماتٌ لم أعهدها قبلًا، لا تشبه أشياء من حياتي السابقة. دخلتُ إلى غربة غير تلك التي دخلتها في الأساس. وبات الأمر أشبه بشبكة أنفاق جميعها تؤدي إلى بعضها. غريب هنا وغريب هناك، وعن هنا وعن هناك.
ولكي أُعبّد دربًا واحدًا على الأقل بيني وبين لغتي الأم، ولأنفض غربة عن كاهلي، حوّلتُ تلك القطيعة التي اعتَرتني إلى انتقام. فرُحت أبحث في ذلك الكائن القديم أُعاركه، أكتشف هويته. وكان دائمًا ما يتغلب عليّ. جذب ودفع، أخذ وردٌّ، هي علاقتي باللغة العربية. إلى أن استعدت أجزاء وطن منها حين ألممت ولو ببعض القصيدة.
وبالتوازي مع ذلك، أخَذَت تنبت ببطء شديد لغة جديدة في جمجمتي؛ "اللغة التركية". عشر سنوات وأنا على هذه الحال. أظنّ أنّي تمكّنت خلالها من فهم بضع عبارات من موظفة الهجرة وأنا في طريقي إلى هنا، إلى لغة وأرض غريبة كليًا أيضًا.
في أول اجتماع لي في مدرسة تعليم اللغة النرويجية، سألتني الموظفة المسؤولة عبر المترجم: ما هي اللغات التي تتقنها إلى جانب لغتك الأم؟
صمتُ لبرهة، أو هكذا ظننت، بل على الأغلب أنّي صمتُ طويلًا... لم أستطع إخبارها أنّي غريب مذ ولدتُ، لا أتقن سوى لغة أمي وأبناء حيّنا.
كرّرَت سؤالها مرة أخرى وأعاده المترجم على أسماعي. وبلحظة نطقَت بإنكليزية ركيكة: It is raining outside.
ابتسمت الموظفة ولم تكمل أسئلتها.
اليوم، خلال سيري إلى المدرسة، وبعدما واظبتُ على حضور دروس اللغة النرويجية لأيام قليلة، شعرتُ بمدى فداحة غربتي عن سائر الناس هنا.
أنا لا أعرفهم، وهم لا يعرفونني. حتى لو جمعتنا مواقف وأحداث، سأبقى خارج نطاق مظلة هذه البلاد. سأظلّ أتلقى مطر الغربة إلى أن أجمع حروف هذه اللغة بكلمات أصنع منها مظلّة تحميني، وهذا الأمر صعب المنال.