المرايا وإعادة اكتشاف الذات

بتُّ أتجنّب النظر في زجاج نوافذ القطار وأنا عائدة مساء. أنشغل بأخبار سوريا، أتخيل جسد سوريا وقد غزته الترهلات والتجاعيد. يقفز جسدها في وجهنا، يصفعنا ويسألنا: ماذا فعلتم بي؟

قالتلي المراية...       تغيّرتِ عليّي

كبرتِ متل الحكاية... وشفناكِ صبية

تاري البنت مخباية... مخباية بالمراية

تدور الأغنية على لساني وأنا أقف قبالة المرآة، تتناهب وجهي التجاعيد. لقد مرّت عجلات السنوات وطحنت أحلام تلك المراهِقة التي كنت، وها هي آثار تلك العجلات تحفر الأخاديد في وجهي.

هل تغيرتُ كثيرًا؟ أسأل نفسي عند الصباح، ماذا بقي مني؟

يتعرف الطفل إلى صورته في المرآة في الفترة الواقعة بين 18 شهرًا وسنتين من العمر. قبل ذلك، يرى الطفل انعكاس صورته في المرآة بوصفها شخصًا آخر. وحين يتطور إدراكه، يبدأ في فهم أن الشخص الموجود في المرآة هو تمثيل لنفسه.

أما أنا، فأكاد لا أذكر أنّي رأيتُ وجهي في المرآة قبل عمر الثانية عشرة. إذ لم يكن لدينا سوى مرآة مدورة صغيرة ذات وجهين، أحدهما مكبّر والآخر عادي. كانت تلك مرآة أختي الكبيرة، تستخدمها لوضع مساحيق التجميل. كنتُ أرى وجهي في عيون إخوتي وهم يسرّحون شعري. أليس الآخرون مرآتك؟ لم أكن أعرف أن النساء البيضاوات أجمل من السمراوات حتى قال أخي إن رفيقتي في الصف أجمل مني، لأنها ذات بشرة بيضاء وعينين خضراوين!

ثمة قصيدة للشاعر مالارميه يقول فيها:

يا مرآة

يا ماء برّدك السأم في إطارك الجامد

كم مرة وطيلة ساعاتٍ مُكدّرًا

من الأحلام، وباحثًا عن ذكرياتي التي هي

كُثل أوراقٍ تحت جَليدك في الحُفرة العميقة

ظهرتُ فيك كظلّ بعيد،

لكن، يا للهول! خلال مساءات، في يُنبوعك القاسي

من حلمي المبعثر، عرفتُ العري!

حين وصلتُ إلى ألمانيا، كان ثمة مرايا في كل غرفة في البيت الذي منحوني إياه. وثمة مرآة طويلة في غرفة النوم. كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها جسدي بالطول الكامل. لا أعرف لم انتابني القلق من النظر إليها، وبدأت أسأل نفسي: من أكون، هل هذا جسدي؟

كنتُ أتعرّف إلى شخص آخر، يُكابد الغربة ويُعيد اكتشاف نفسه في أماكن جديدة. يُخفق في مطبات اللغة والاندماج. يحاول أن يولد من جديد، مثل طفل يرى صورته لأول مرة في المرآة، ويحاول أن يُثبّت هذه الصورة ويقول: نعم، هذه الصورة لي. طال الوقت حتى استطعتُ أن أتكيّف مع صورتي الجديدة في برلين.

أخاف أن أنظر في المرآة فتقفز تلك الفتاة العشرينية إلى وجهي، تصفعني وتسألني: ماذا فعلتِ بجسدي؟

حين أُصيبت أمي بمرض "ألزهايمر"، طلبت إليّ الطبيبة أن أُغطي المرايا في البيت، لأن مريض "ألزهايمر" يعتبر انعكاس صورته في المرآة شخصًا آخر، فيتشاجر معه، وقد يكسر المرآة. وهذا بالضبط ما حصل مع زوج عمتي الذي أُصيب بـ"ألزهايمر" حين نظر إلى صورته في المرآة الطويلة، ورأى رجلًا لم يعرفه، فكسر المرآة واتهم عمّتي بالخيانة. ضحكتُ من طلب الطبيبة يومها. فنحن لا نملك سوى مرآة صغيرة تعلو المغسلة. 

اعتُقل ابن أخي، عام 2012، وبقيتُ لمدّة شهرين كاملين لا أنظر إلى وجهي في المرآة. كنتُ أشعر بالذنب، لا سيما أن العائلة اتهمتني بأنّي السبب في اعتقاله. خفتُ أن تُخبرني المرآة بالحقيقة. حين خرج، وقفتُ أمام المرآة. كان شعري قد غزاه الشيب، كأنّي امرأة أخرى!

يُقال إن أقدم مرآة عرفها الإنسان كانت، على الأرجح، بركة ماء. لذا تناقل الناس أسطورة "نرسيس" وتحديقته في صورته المنعكسة على صفيحة الماء. وكانت تلك، ربما، المرة الأولى التي يرى فيها نفسه. 

أُعيد قراءة الأسطورة مرات عدة، وأشعر بالشفقة على نرسيس. يُقال إنه من فرط إعجابه بنفسه، عشق صورته في البركة وسقط فيها، ثم نبتت مكانه زهور النرجس الفوّاحة. ثم يخطر في بالي أن من تنبتُ زهور النرجس فوق رماده لا بد أن يكون طيّبًا، لكنه التضليل الذي تمارسه المرايا علينا فتفقدنا صوابنا.

أفكّر أيضًا بشخصية الديكتاتور حين يرى الجموع الغفيرة وهي تهتف باسمه وتبايعه إلى الأبد. مرآته هذه الجموع، يشعر بالرضى وتزداد نرجسيته ويزداد بطشه. هل يفكر الديكتاتور بأن المرآة قد تكذب، أو أن المرآة تخاف قول الحقيقة؟ ما من طفل يخرج من الجموع ليقول: لكن الملك قبيح يا أماه!

أذكر جملة لجين أوستن تقول فيها "لا أريد أن يوافقني الناس كثيرًا، كي أوفّر على نفسي جهد الإعجاب الشديد بهم". أقرأ العبارة وأشعر بخوف: هل من يوافقوننا يشبهوننا، هل نحب ذواتنا أكثر حين تنعكس في مرايا الآخرين؟

لم تغرِني فكرة الإنجاب يومًا، برغم ولعي بالأطفال، لكن سؤالًا وجهته لي سيدة منذ أيام قليلة في ورشة للكتابة جعلني أتوقف عند هذه الفكرة. قالت لي: لم لا تفكرين في إنجاب طفل يفتخر بك كشاعرة مشهورة ويقول هذه أمي! صفنتُ قليلًا ولم أعرف بما أجيبها. لطالما نظرتُ إلى الإنجاب بوصفه فكرة أنانية، فنحن، دون أن نعي، نحاول أن نسبغ الصفات التي نحب على أولادنا. نطلب منهم أن ينجحوا في ما أخفقنا به. نريد منهم أن يكونوا مرايا لنا لنفتخر بهم ونقول: انظروا، هذا نتاجي! أبناؤنا مرايا لنا، ولكن هل نفكر بما يريدونه بالفعل؟ هل تتمرّد المرآة؟

منذ فترة وأنا أتحسس تقدّمي في السن، ليس عبر التكشيرة القاسية بين الحاجبين والتجاعيد الكثيرة في الجبهة، وإنما جلد يدي وكفّي. أرى الجلد وهو ينكمش ويرسم أخاديد. أتذكر خوفي من بقع السنّ التي كانت تغطّي يدَي جدتي، كأن الجسد يغدو مرآة لما مرّ عليك من تجارب قاسية!

تخبرني صديقتي الألمانية أن عمرها غدا ستين، لكنها تردف إن الستين أقل سوءًا من الخمسين. ففي الخمسين تصعقك تلك الانهيارات الحادة في الجسد والطباع، أما في الستين فتعتادين جسدك الجديد، وتنظرين إليه في الصور القديمة وكأنه يخصّ امرأة أخرى.

لم أستطع تقبّل الفكرة. أقول لها: أخاف أن أنظر في المرآة فتقفز تلك الفتاة العشرينية إلى وجهي، تصفعني وتسألني: ماذا فعلتِ بجسدي؟ ألمسُ تجاعيدي وأحاول أن أُهدهدها، أهرب منها مرات كثبرة وهي تحاول أن تخبرني الحقيقة: لقد كبرتِ!

بتُّ أتجنّب النظر في زجاج نوافذ القطار وأنا عائدة مساء. أنشغل بأخبار سوريا، أتخيل جسد سوريا وقد غزته الترهلات والتجاعيد. يقفز جسدها في وجهنا، يصفعنا ويسألنا: ماذا فعلتم بي؟

أفتح خريطة سوريا، أمسّد جسدها الناعم من الجنوب إلى الشمال، أمطُّ الأنهار قليلًا كي لا تبدو التجاعيد عميقة، وأحاول إزالة ندوب الجبال العالية، وأقول: لا بأس... لا بأس يا حلوتي، ما من امرأة أجمل منك!

حزينة، كوجه المجدليّة

منذ متى وإسرائيل تخاف على السوريين وتنصّب نفسها قاضيًا للصلح بينهم؟

هنادي زرقة
رَحَلَ رفيقنا

"رشيد، ثريا، زكريا، المعلم نخلة... رضا" وغيرهم. سنبقى أسرى لتلك الأصوات التي شكّلتنا ولجُمل زياد المسرحية...

هنادي زرقة
نريد أبناءنا أحياء

سوف يبقى النضال السلمي للنساء في الكشف عن مصير أحبائهن من أصدق وأنبل أشكال النضال الإنساني، هؤلاء الأمهات...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة