الصورة أرشيف الزمن الحالي. إنها وثيقة تهيمن بحضورها على ما عداها من وسائط التدوين والأرشفة.
الصورة وثّقت مأساة هجرات السوريين ونزوحهم، القسري أو الاختياري، هربًا من الحرب. إلّا أن هذه الصورة ذاتها تحتاج إلى تدقيق وتحليل ومطابقة مع الواقع لدراسة صحة فعل التوثيق المفترض، وتبيان مداه.
ارتسمت لوحة محددة لحال السوريين الهاربين من أرضهم. تتكون هذه اللوحة من تقارير الصحافيين، ومن الأفلام الروائية والوثائقية التي أنجزها مخرجون سوريون أو أجانب، ومن الصور الملتقطة كصورة الطفل الذي قتله البحر ورمته المياه على الشاطئ.
بعد مرور سنوات على بداية الحرب في سوريا، وعلى هجر ملايين السوريين مساكنهم وقراهم أو مدنهم، يستدعي التأمل في هذه اللوحة الكثير من الأسئلة لجهة اكتمالها. الاكتمال المقصود لا يعني الكمال المطلق، بل يعني مدى تمثيلها أحوال شخوصها.
في اللوحة التي ارتسمت في الذاكرة العالمية، شاهدنا لاجئين يخوضون البحر بطرق غير شرعية، تحت قوانين عصابات التهريب من الشرق إلى أوروبا. شاهدنا آخرين يعيشون في خيم، ويصطفون طوابير في انتظار المساعدات. شاهدنا أطفالًا محرومين من التعليم، وشاهدنا مدارس بائسة للاجئين.
شاهدنا قصص معتقلين سابقين ذاقوا أسوأ صنوف التعذيب، وشاهدنا شبانًا وشابات يتجمعون في ساحات بعض المدن يعلنون العصيان ورفض النظام الحاكم أيًا كان ثمن هذه المواجهة. شاهدنا أفلامًا عن مجموعات جديدة، مسلحة أو مدنية. وشاهدنا تقارير عن قصص نجاح: طالبة تفوقت في الدراسة في الأردن، وناجية من مجزرة في سوريا تفتتح مطعمًا في ألمانيا.
شاهدنا كل هؤلاء دون أن نشاهد الهجرة والغربة ويوميات اللاجئين والعقد الاجتماعي الذي بُني في مخيمات اللجوء. اللوحة ناقصة، وفي الاجتزاء الذي جرى تغييب لقضايا هذه الغربة نفسها.
كيف تتم عمليات إدماج اللاجئين في المجتمعات الجديدة؟ كيف يعيشون فعل التأقلم؟ وما آثار الانسلاخ عن قيم المجتمع الأصلي الذي يأتون منه؟
يمكن إدارج السوريين الهاربين من الحرب في ثلاث مجموعات. مجموعة أولى مُغيّبة بشكل شبه تام عن المشهد، وهي مؤلفة من سوريين نزحوا من مناطقهم نحو مناطق أخرى في بلادهم تقع تحت سلطة الحكومة. المجموعة الثانية مؤلفة من اللاجئين الى دول الجوار. والمجموعة الثالثة من الهاربين الى الغرب.
فيما يخص اللاجئين الذين يعيشيون في خيم، بشكل خاص، شاهدنا الخيم وأطفالًا يلهون بالوحل أو بالثلج. تشي أزياؤهم بحال الفقر المدقع الذي يعانون منه.
لكنّ اللوحة الطاغية لم تعكس تفاصيل العقد الاجتماعي الذي جمعهم، ولا سلطة "الشاويش" في كل مخيم، ولا العلاقات المعقدة مع مندوبي المنظمات الدولية أو الجمعيات غير الحكومية. لم تُصوَّر جهودهم اليومية لمجابهة الحياة، ولا خلافاتهم، ولا دوائر التعاضد فيما بينهم، ولا الآثار المدمرة لتدني نسبة التعليم بينهم.
كانوا أطفالًا ونساءً بثياب رثة، ينعون حالهم فقط. فيما المخيم يقوم على ما تم تغييبه: نماذج اقتصادية، وديناميات للعيش كما هو حال أي مجتمع، ووسائل تواصل بين ساكنيه بما يفرضه تنوع شخصيات الناس وتنوع أساليب مواجهتهم للصعاب. لم تكترث التقارير والأفلام لنقاش خيار العيش خارج الخيمة، وكيف يكبر طفل عاش في خيمة لأكثر من عقد.
في هذا الفصل تحديدًا، تشبه الصورة الطاغية ذاك الانفصال الذي مورس في إطار العمل الإنساني الموجه لمساعدة النازحين، حيث كانت الجمعيات تفرض على الملتحقين بها شرط إتقان اللغة الإنكليزية، فيما لم يُفرض إتقان اللغة العربية، أي اللغة الوحيدة التي يتحدث بها غالبية سكان تلك المخيمات. هذه بعض الأسئلة المتعلقة بحال النازحين إلى دور الجوار غالبًا.
أما أولئك الذين واجهوا المخاطر، ورموا بأنفسهم وبأولادهم على متن قوارب الموت، وفَقَد بعضهم حياته، فالأسئلة عنهم تبدأ مما يسبق ركوب القارب: كيف بُثت الدعاية بينهم ليقبلوا بشروط المهربين؟ لماذا لم تفتح لهم الدول المستَقبلة الأبواب دون أن تكون رحلاتهم إليها محفوفة بالمخاطر؟ ما الذي عايشوه في فتراتهم الأولى؟ كيف كانت تفاصيل الحياة في مخيمات الإيواء قبل توزيعهم على المدن؟ لماذا حرمت بعض النساء من مصاغها، أي قوتها لمواجهة أيام أكثر سواد؟ كيف تحول الحصول على الماء في مخيمات أخرى إلى مهمة شاقة؟ وما التفاصيل الأخرى التي لا يُحكى عنها؟
كيف وجد هؤلاء اللاجئين في الغربة مسكنًا؟ كيف تتم عمليات إدماجهم في المجتمعات الجديدة؟ كيف يعيشون فعل التأقلم هذا؟ وما آثار الانسلاخ عن قيم المجتمع الأصلي الذي يأتون منه؟ كيف يكسبون المال؟ وكيف يتخلصون من آثار الذاكرة المثقلة بمشاهد الحرب؟
في كتابه "الغياب المزدوج"، كتب عالم الاجتماع الجزائري عبد المالك صيّاد عن مصطلحين: الهجرة، وهي الانتقال من بلد إلى آخر، والغربة ومعناها التواجد والعيش في البلد المُستقبِل، وهما مصطلحان لكل منهما معنى مختلف عن الآخر، لكنهما مصطلحان يتوجب دائمًا التفكير بهما بوصفهما مترابطين[1].
اللوحة المؤلفة من صور هجرة السوريين، أخذت لقطات متفرقة من الهجرة وأخرى من الغربة، بما يجعل "الصورة تطلع حلوة"، إما بتقديم اللاجئين كضحايا بلا تاريخ ولا حاضر، أو كأبطال نادرين. لم تُظهر اللوحة الطاغية اللاجئين وهم يخوضون الحياة اليومية بمصاعبها، ومغرياتها، وأسئلتها.
[1] Sayad Abdulmalak, “ La Double absence”, Editions du Seuil, Paris, 1999