عالم آخر ممكن...
يضعنا انتشار فيروس "كورونا" أمام حقائق كونية جديدة: لقد أدى الاستثمار المتوحش لمقدّرات الكوكب إلى اختلال كبير في النظام البيئي، وخرجت إلينا بعض عوامل الطبيعة ومخلوقاتها للدفاع عن نفسها.
يضعنا انتشار فيروس "كورونا" أمام حقائق كونية جديدة: لقد أدى الاستثمار المتوحش لمقدّرات الكوكب إلى اختلال كبير في النظام البيئي، وخرجت إلينا بعض عوامل الطبيعة ومخلوقاتها للدفاع عن نفسها.
حرير رؤوس الأموال، كما توقع نوام تشومسكي، أدى دوره كسلاح يفتك في أي عقد اجتماعي عالمي ينعم بالديموقراطية والمساواةشكلت الحرب الأميركية على العراق عام 2003 إعصاراً هائجاً أطاح بالكثير من هذه الجهود، إذ خفتت بعدها أصوات المحتجّين بفعل سطوة النموذج المهيمن على العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً. في كتابها، No Logo، اعتبرت نعومي كلاين أن الشركات العابرة للقارات لا تبيعنا منتجات فقط، بل تروج لنا نموذجاً موحّداً لأسلوب العيش، حيث اجتاحت هذه الشركات مجالات حياتنا الخاصة كافة. وقد ترافق تعويم هذا النموذج وسيطرة تلك الشركات مع تراجع مذهل لحقوق العمال،سواء في الغرب حيث تتكاثر أشكال الوظائف الهشّة، قصيرة الأمد، والتي لا تؤمن حقوقًا اجتماعية، أم في الدول النامية حيث تبرز أنواع جديدة من العبودية في العمل. يكفي عرض أدبيات التيار المطالب بعولمة بديلة وإنسانية في مثل هذه الأيام لتبيان صوابية رؤاه، سواء لجهة قراءة تبعات العولمة أو لناحية رفعه مطالب مقابلة. يضعنا انتشار فيروس "كورونا" اليوم أمام حقائق كونية جديدة: لقد أدى الاستثمار المتوحش لمقدّرات الكوكب إلى اختلال كبير في النظام البيئي، وخرجت إلينا بعض عوامل الطبيعة ومخلوقاتها للدفاع عن نفسها. حرير رؤوس الأموال، كما توقع نوام تشومسكي، أدى دوره كسلاح يفتك في أي عقد اجتماعي عالمي ينعم بالديموقراطية والمساواة (مجلة لوموند ديبلوماتيك- كانون الأول 1998)، وقد بيّنت الأزمة الفيروسية الحالية أن سياسيات التصنيع والصحة والتبادل التجاري الحالية عاجزة عن تأمين حق الطبابة للأفراد، وأن اعتبارات الربح المالي تتقدم عليها بأشواط. العالم الذي استقرت عنده إخفاقات النيوليبرالية يمكن اختصاره في مشهدين شديدي التشابه. الأول هو ألبوم تتكدس فيه صور مصانع كبيرة في روسيا، مصانع باتت باحات لأسواق خضار، أو أبنية فارغة يعشعش فيها الغُراب، بعدما انهار الاتحاد السوفياتي وشكل انهياره انتصاراً للمحور المقابل. فيما المشهد الثاني يلي الأول بنحو عشر سنوات، وهو عبارة عن كادر متحرك في بلدات صامتة في النورماندي الفرنسية، تسير الكاميرا في طرقاتها فتعثر لماماً على رجال في العقد الخامس، يجلسون وحيدين أمام منازلهم، لتنتهي رحلة الكاميرا أمام مبنى ضخم صامت، مهجور، يعشعش فيه الغراب أيضًا. هذا المبنى كان يحوي واحداً من أهم معامل النسيج الفاخر، وقد تم نقله إلى دول آسيوية فقيرة، حيث اليد العاملة المتدنية الأجور. أما الرجال المتسمرون أمام منازلهم فهم جزء من جيش العاطلين عن العمل الذين فقدوا أشغالهم بفعل انتقال الشركات الكبرى إلى حيث لا حقوق للعمال، ولا أجور متوسطة. مشهد بلدات النورمادي جزء من مشاهد كثيرة في دول التحقت بالعولمة النيوليبرالية وشكّلت جزءاً من منظومتها. لم تعد المجتمعات الفقيرة هي الأكثر ضعفاً في مواجهة تبعات السياسات النيوليبرالية، بل المجتمعات كافة. لذلك تجب العودة مجدداً إلى إحياء الإيمان بـ"عالم آخر ممكن"، أكثر عدالة وإنسانية، بل بأن هذا الخيار بات أكثر ضرورة اليوم من أي وقت مضى.