الصين والغرب: دوافع الصراع

كيف يمكن تفسير مقاربة بكين للعلاقة بالجوار الصيني، الذي ينتقل سريعًا إلى التحالف مع الولايات المتحدة والاندراج ضمن "الغرب السياسي"؟

غالبًا، سيعترض القارئ على عبارة "الصراع بين الصين والغرب"، بالاستناد إلى سردية مفادها أن الصراع في الحقيقة هو بين الصين والولايات المتحدة، وأن الأخيرة تنجح باستدراج حلفائها وتوريطهم في الصراع مع الصين – كما فعلت أخيرًا وورطتهم في الصراع مع روسيا. تلقي هذه المقولة باللائمة على الولايات المتحدة، وتظهر حلفاءها الغربيين بمظهر السذج الأبرياء. الأكيد أن الولايات المتحدة لا تحتاج لمن "يشيطنها"، لكن تبرئة حلفائها الغربيين، خصوصًا الأوروبيين منهم، وإظهارهم بمظهر من يُستدرج للصراع، هو مغالطة يمكن نقضها، سواء بالعودة إلى التاريخ، أو التأمل في الواقع الحالي، أو محاولة استشراف المستقبل.

قرن المهانة (1839-1949)، وفق الأدبيات الصينية، كان بالدرجة الأولى نتيجة صراع صيني - بريطاني، أبرز محطاته حربا الأفيون الأولى (1839-1842) والثانية (1856-1860) اللتان شنتهما بريطانيا على الصين، وكذلك الحملة البريطانية على التيبت (1903-1904). كما كان نتيجة صراع صيني - ياباني، وصراع صيني-روسي (خلال الحقبتين القيصرية والشيوعية). هذا فضلًا عن حروب جماعية مثل غزو التحالف الثماني لشمال الصين (1899-1901)؛ علمًا بأن هذا التحالف كان يضم بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا واليابان والولايات المتحدة والإمبراطورية النمساوية - الهنغارية. من الناحية التاريخية، الولايات المتحدة هي وافد متأخر للصراع مع الصين.

التمعن في الواقع الحالي يظهر أن الدول الأوروبية تعمل صراحة على التوسع في القارة الأفريقية، وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ. والاهتمام بأفريقيا ينبع من الثروات الطبيعية ودورها المقبل في توليد الطاقة النظيفة لأوروبا، فضلًا عن الخطر الدائم المتمثل بتدفق ملايين المهاجرين للشمال وتنامي التنظيمات الإسلامية المتطرفة. من المنظور الأوروبي، تمثل الصين في أفريقيا المنافس الأخطر، لكونها الأبكر في الحضور إلى المنطقة، وبسبب أدواتها الاقتصادية والمالية والعسكرية، وكذلك تحالفها المتبلور مع روسيا. لهذا، فالإمكانية محدودة للتعايش بين الأجندة الصينية والأجندة الأوروبية في أفريقيا.

أما منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فتمثل الشريان التجاري والاقتصادي الحالي والمستقبلي لأوروبا. فالهند وإندونيسيا وفيتنام وغيرها من دول جنوب وجنوب شرق آسيا، تحل تدريجيًا محل الصين تجاريًا واستراتيجيًا بالنسبة للدول الأوروبية. وليس من المصادفة أن بعض هذه القوى الآسيوية ينظر بدوره إلى الصين بصفتها الخطر الأكبر، وهذا ما يدفعها أيضًا للتحالف مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة. الأدوات الأوروبية حاليًا لا تزال محدودة حاليًا قياسًا على الأدوات الصينية والأميركية في أفريقيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ. لكن العمل يجري بشكل متسارع على تطوير تلك الأدوات، بما في ذلك عبر الحضور العسكري الأوروبي المباشر، ورفع مستوى التنسيق مع الولايات المتحدة، وصياغة تحالفات سياسية وعسكرية صريحة مع القوى الحليفة للولايات المتحدة والمنافسة للصين في المحيطين الهندي والهادئ، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند. هنا، قد تفيد إعادة تعريف المقصود بـ"الغرب" ليتجاوز التركيز على البعد الجغرافي، وليأخذ بالاعتبار التحالفات والمصالح السياسية، ليشمل الدول الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند وتايوان، وربما مستقبلًا إندونيسيا وفيتنام والفلبين.

لا تكتفي الصين بفرض القيود والتحوط، بل ترى في التمدد النشط في محيطها إجراءً دفاعيًا لا غنى عنه

ولكن قبل الانتقال إلى محور آخر، لا بد من محاولة تفسير مقاربة بكين للعلاقة بالجوار الصيني، الذي ينتقل سريعًا إلى التحالف الصريح مع الولايات المتحدة والاندراج ضمن "الغرب السياسي". خلال العقد الماضي، باتت الصين الشريك التجاري الأول لغالبية الدول المجاورة لها، بل لغالبية دول العالم وفق بعض الإحصاءات. ولكنّ هذا لم يمنح الصين الهيمنة السياسية والثقافية المتوقعة، حتى في محيطها القريب، وذلك على عكس ما حصل مع القوى الكبرى التي ظهرت في القرون الأخيرة، مثل الإمبراطورية البريطانية وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، والتي نجح كل منها بفرض هيمنة ثقافية وعسكرية.

العولمة لا تزال تعني اليوم هيمنة الثقافة الأميركية. وبرغم أن الصين تشكل سدس سكان العالم وثاني أكبر اقتصاد فيه، إلا أن هيمنتها الثقافية ما زالت ضئيلة، حتى بالمقارنة مع بعض القوى الأوروبية، مثل فرنسا وإسبانيا، أو حتى اليابان أو الهند أو أستراليا أو كوريا الجنوبية. الصين لا تزال بلدًا "غامضًا" بالنسبة لمحيطها والعالم، والقيادة الصينية تفرض على شعبها قيودًا، تبدأ من استخدام الإنترنت. هذه القيود تعكس استمرار القلق تجاه الخارج واحتمال التعرض للمؤامرات ومحاولات التدخل من القوى الإقليمية والدولية.

والصين، بطبيعة الحال، لا تكتفي بفرض القيود والتحوط، بل ترى في التمدد النشط في محيطها إجراءً دفاعيًا لا غنى عنه. إنشاء الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي واستخدام الصيادين وسفن خفر السواحل للسيطرة على الجزر الصغيرة التابعة لبعض الدول المجاورة بات سياسة منهجية للصين. ولكن، لماذا تلجأ دولة المليار وأربعمئة مليون نسمة، وثاني أكبر اقتصاد في العالم لمثل هذه السياسات؟ ببساطة لأن أكبر انهيار للصين – وبداية قرن المهانة – حصل بعدما وصلت الصين لمرتبة أكبر اقتصاد في العالم – 33% من الاقتصاد العالمي – في عشرينات القرن التاسع عشر. الدول الأوروبية وروسيا واليابان والولايات المتحدة وجدت رؤوس جسور لها في محيط الصين ونجحت بتقويض نموها الاقتصادي وسلب ثرواتها وفرض قواعدها عليها. لهذا، فالمخاوف الصينية من استخدام محيطها ضدها مرة أخرى ليست هلوسات. ولكن أن تكون مخاوف الصين مبررة، لا يعني بالضرورة أن تحركاتها في السنوات الأخيرة هي الخيار الأمثل أو أنها ستكون من دون ارتدادات سلبية.

الدول الأقرب جغرافيًا للصين، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كانت أول الدول المشمولة بمشروع "الحزام والطريق" - الشهير إعلاميًا بمشروع "طريق الحرير الجديد" – لكن غالبية هذه الدول كان ضحيةً أيضًا لاستراتيجية التمدد الصيني، كما هو الحال، على سبيل المثال، مع إندونيسيا التي تمثل حالة تستحق التمعن. فمن ناحية أولى، إندونيسيا هي بلد إسلامي تنامت فيه خلال السنوات الأخيرة النزعة الإسلامية المحافظة التي ترفض الثقافة الغربية، كما كانت إندونيسيا – بحسب رأي عام واسع فيها – ضحية للمؤامرات الغربية التي بدأت منذ مطلع القرن السادس العشر مع وفود التجار الهولنديين والبريطانيين وصولًا لدعم انفصال تيمور الشرقية في 1999.

الصين هي أكبر شريك تجاري لإندونيسيا، بإجمالي يقارب 80 مليار دولار. ولهذا، فقد كانت إندونيسيا من أوائل المنضمين لمشروع "الحزام والطريق" الصيني. ولكن في مطلع 2020، كان البلدان على وشك الاصطدام عسكريَا مع تتابع محاولات الصين ضم جزر تابعة لإندونيسيا. محاولات الصين التمدد عبر الجزر الصناعية وضم جزر تابعة للدول المجاورة لها، تكررت مع دول عدة أخرى في المنطقة، لكن إندونيسيا هي الأكبر جغرافيًا وبشريًا، وكانت أول من بادر للرد عبر إرسال قواتها البحرية في يناير/كانون الثاني 2020 لاعتراض الزوارق الصينية.

الخلاصة التي وصلت إليها إندونيسيا هي أن التجارة ومشروع "الحزام والطريق" لن تثني الصين عن محاولة التمدد على حسابها، وقد لا تختلف تجربة الهيمنة الصينية على إندونيسيا عن تجربة الهيمنة الأوروبية في القرون الماضية. رد إندونيسيا شمل اتخاذ قرار بتخصيص 125 مليار دولار للإنفاق العسكري وعقد سلسلة من الصفقات الدفاعية الكبيرة مع الولايات المتحدة وفرنسا. وما قامت به إندونيسيا قام به العديد من الدول الأخرى في تلك المنطقة. وباتت النتيجة هي ما نراه اليوم: شبكة من التحالفات المعقدة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية والقوى الإقليمية في المحيطين الهندي والهادئ، والتي يجمع بينها النظرة العدائية للصين أو المتوجسة منها، فيها ترى الأخيرة في تلك النظرة ما يغذي مخاوفها المزمنة من قرب حصول مؤامرات إقليمية ودولية تقطع عليها الطريق لقيادة النظام العالمي.

Image Credit: Kenzo TRIBOUILLARD / AFP

الاقتصاد السياسي للبنى التحتية في سوريا: الكهرباء مثالًا

يتركّز النقاش السوري على مدى توفّر المواد الأولية اللازمة لتلبية المتطلبات المباشرة للسوريين، خصوصًا..

محمد صالح الفتيح
الآثار الاقتصادية العميقة للحرب الروسيّة - الأوكرانيّة

قد تتمكن القيادة الروسية من الحد من الانكماش الاقتصادي. لكن الحفاظ على النفوذ في الخارج يحتاج إلى قدرات..

محمد صالح الفتيح
حسمٌ متعثر في طرابلس وتفضيل دولي للوضع الراهن

إن كان سوء الظن من حسن الفطن، فلا بد من التساؤل عما إذا كانت مصالح شركات النفط الفرنسية، توتال،..

محمد صالح الفتيح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة