الآثار الاقتصادية العميقة للحرب الروسيّة - الأوكرانيّة

قد تتمكن القيادة الروسية من الحد من الانكماش الاقتصادي. لكن الحفاظ على النفوذ في الخارج يحتاج إلى قدرات مالية فائضة وشركات متحررة من القيود الدولية. فعل روسيا قادرة على ذلك بعد عام على اندلاع الحرب؟ وكيف ينعكس كل ذلك على العالم العربي؟

منذ الأيام الأولى لانطلاق الحرب الروسية - الأوكرانية، احتدم جدل حاد حول انعكاساتها المحتملة على الاقتصاد العالمي، خصوصًا في مجالات الطاقة والأمن الغذائي والسيولة المالية العالمية. ومع انتهاء العام الأول لهذه الحرب والتيقّن من أنها مرشحة للاستمرار لفترة طويلة، ما زال الغموض يحيط بالمشهد الاقتصادي. وهو غموض يعود بالدرجة الأولى لكون الحرب وقعت بعد ثلاثة عقود من نهاية الحرب الباردة وما تلاها من عولمة تجارية واعتماد متبادل بين القوى الاقتصادية الكبرى، حيث يصعب على الجمهور وكثير من المراقبين اليوم تخيل انتقال الدول المعنية – روسيا وأوروبا والولايات المتحدة – إلى حالة اقتصاد الحرب والانغلاق الاقتصادي، علمًا بأن هذا الانتقال قد لا تتبعه عودة إلى الوضع السابق.

هذا وضع غير مألوف، وهو يحصل بالتزامن مع تطورات بنيوية عدة، أبرزها الانتقال نحو مصادر طاقة جديدة قد تطوي صفحة الوقود الأحفوري، والاستخدام المتزايد للأتمتة والذكاء الصناعي، علمًا بأن هذه التطورات كانت موضع نقاش عميق بين خبراء الاقتصاد في السنوات الأخيرة، وذلك قبل أن يتخيل أحد عودة مشاهد القتال المرير عبر الخنادق والخطوط الدفاعية في البر الأوروبي، على نحو «معركة السوم» الدموية في 1916.

نحن نعيش إذًا مرحلة غير مسبوقة، سياسيًا وتقنيًا واقتصاديًا وعسكريًا. وفي هذه المرحلة، يصبح أسهل علينا طرحُ فرضيات وتوقعات للمسار الاستراتيجي الطويل الأمد، من محاولة توقع ما قد يحصل بعد شهر أو شهرين. الحرب ستترك بكل تأكيد آثارًا سلبيةً تتفاقم تدريجيًا على روسيا، فيما ستترك آثارًا سلبيةً على المدى القصير والمتوسط على الغرب، يرجح أن تتحول لاحقًا إلى آثار إيجابية. القارئ العربي سيكون أكثر تأثرًا – من النواحي السياسية والاقتصادية – بما سيحصل للاقتصاد الروسي، وهذا ما سنركز عليه هنا.

المؤشر الأهم للأوضاع الاقتصادية هو الناتج المحلي الإجمالي GDP. بعض المراقبين توقعوا في بداية الحرب أن ينكمش الاقتصاد الروسي بما يتراوح بين 10% و15% بسبب العقوبات وفاتورة الحرب. إلا أن آخر التقديرات تظهر أن أداء الاقتصاد الروسي كان أفضل من المتوقع، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.1% في 2022، بينما أعلن صندوق النقد الدولي IMF هذا الشهر أنه يتوقع نمو الاقتصاد الروسي في 2023 بنسبة 0.3%. إلا أن القيمة الإجمالية للناتج المحلي الإجمالي لا تكفي وحدها للجزم بأحوال أو مستقبل روسيا الاقتصادي. فالناتج المحلي الإجمالي هو محصلة أربعة مكونات: إنفاق الأفراد، وإنفاق القطاع الخاص، وإنفاق الحكومة، وصافي الميزان التجاري (الصادرات ناقص الواردات). الأكيد أن إنفاق القطاع الخاص وإنفاق الأفراد في روسيا قد تراجع، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من مؤشرات عدة، أسهلها معدلات مبيعات التجزئة والجملة، التي انخفضت في الأشهر الأخيرة في روسيا بحوالي 11% للأولى و21% للثانية.

يخوض الاقتصاد الروسي سباقًا مع الزمن في الوقت الذي تراهن فيه القيادة الروسية على  إطالة أمد الحر

لكن، في المقابل، هناك تحسن محدود في صافي الميزان التجاري، لأن الواردات انخفضت بشكل أكبر من انخفاض الصادرات. كما عوّضت الحكومة الروسية تراجع إنفاق الأفراد والشركات عبر حفاظها على مستويات الإنفاق العام، وتقديم المزيد من حزم الدعم المالي والاقتصادي، وكذلك طرح المزيد من النقد الأجنبي في الأسواق لتحسين قيمة الروبل. مساهمة الحكومة الروسية في إجمالي الناتج المحلي ازدادت بشكل واضح، ولهذا، لا بد من التساؤل حول تكلفة هذه المساهمة، ومدى قدرة الحكومة الروسية على الاستمرار في أداء هذا الدور. هنا يمكن الإشارة إلى ثلاثة أرقام:

الرقم الأول هو ازدياد الدين العام للحكومة الروسية من 15.5 تريليون روبل منتصف 2022 لأكثر من 18 تريليون روبل في نهاية 2022. تعادل هذه الزيادة حوالي 35 مليار دولار.

الرقم الثاني هو تراجع احتياط النقد الأجنبي بحوالي 40 مليار دولار في مطلع 2023 بالمقارنة مع مطلع 2022 (من 630 إلى 590 مليارًا، علمًا بأن مطلع العام يشهد في العادة زيادةً في احتياط النقد الأجنبي بسبب العوائد الإضافية لتصدير الغاز خلال الخريف والشتاء). آخر الأرقام تشير إلى أن الحكومة الروسية تستخدم 125 مليون دولار يوميًا من هذا الاحتياطي للحفاظ على قيمة الروبل.

الرقم الثالث هو استخدام الحكومة الروسية 38 مليار دولار من "صندوق الرفاه الوطني" في ديسمبر/كانون الأول 2022، لمعالجة عجز الموازنة العامة الذي بلغ في ذلك الشهر 3.3 تريلون روبل، علمًا بأن الموازنة الروسية لم تدخل حالة عجز منذ مارس/آذار 2021. "صندوق الرفاه الوطني" هو احتياطي مالي تستخدمه الحكومة الروسية عند الطوارئ، وفي مطلع هذا العام انخفض إلى 148 مليار دولار، لكن نحو 86 مليارًا منها فقط هي أصول سائلة يمكن استخدامها بشكل سريع.

هذه الأرقام الثلاثة وحدها تزيد على 110 مليار دولار. وهناك أرقام أخرى يجب إضافتها. ولكن حتى من دون هذه الإضافات، يشكّل إجمالي الـ110 مليار دولار المشار إليها، حوالي 6.5% من إجمالي الناتج المحلي الروسي. باختصار، استخدمت الحكومة الروسية احتياطاتها المالية في 2022 لتقليص الانكماش الاقتصادي الذي كان يمكن أن يصل إلى أكثر من 8.5%. ولكن إلى متى يمكن لروسيا استخدام ثلاثية الاقتراض واستخدام احتياطي النقد الأجنبي و"صندوق الرفاه الوطني"؟

الضغوط المستمرة على قطاع الطاقة الروسي ستستمر باستنزاف احتياطي النقد الأجنبي، و"صندوق الرفاه الوطني" الذي يُستخدم لدعم الموازنة الحكومية يُتوقع أن ينضب في نهاية 2024، علمًا بأن شهر يناير/كانون الثاني 2023 شهد عجزًا في الموازنة الحكومية بمقدار 1.7 تريليون روبل، أو حوالي 25 مليار دولار تم على الأرجح تغطيتها من صندوق "الرفاه الوطني" أو من الاقتراض.

يُشار هنا إلى أن السوق الداخلي الروسي بات مصدر الاقتراض الرئيس للحكومة الروسية، ولهذا عواقبه المكلفة على قيمة العملة الوطنية على المدى المتوسط. يضاف إلى ما سبق أن أهم مستوردين للنفط والغاز الروسي – أي الصين والهند – يستمران بالضغط على روسيا للحصول على تخفيضات أكبر في الأسعار لمتابعة الاستيراد وعدم الالتزام بالعقوبات الغربية.

بالمختصر، يخوض الاقتصاد الروسي سباقًا مع الزمن في الوقت الذي تبدو فيه القيادة الروسية مصرة على الرهان على إطالة أمد الحرب. على المدى الطويل، ستتحول روسيا للاعتماد اقتصاديًا على الصين والهند. روسيا، بطبيعة الحال، لن تفلس. ولكن قدرتها على تحقيق نمو اقتصادي حقيقي وتنويع قطاعاتها الاقتصادية بعيدًا عن تصدير المواد الخام ستتقلص بشكل كبير. يحصل هذا في وقت يتسارع فيه النمو الاقتصادي للعديد من الدول، خصوصًا في آسيا.

الخلاصة النهائية لجمود الاقتصاد الروسي وتزايد عدد القوى الصاعدة أن روسيا ستخسر مكانتها كصاحبة الاقتصاد الرقم 9 عالميًا، في 2022، وقد تصبح في المرتبة 14 بحلول العام 2032، وهذا على افتراض احتفاظ الحكومة الروسية بقدرتها على الإنفاق العام وفق مستويات 2022.

الانعكاسات غير المباشرة للحرب تتمثل في أزمة توريد الطاقة إلى دول المنطقة وارتفاع فاتورة الأمن الغذائي

انعكاسات هذه الأوضاع في روسيا على الشأن العربي واسعة، ولكن يمكن الإشارة لما يلي: سياسيًا، سيتعرض النفوذ الروسي في المنطقة لضغوط كبيرة بما قد يدفع موسكر إلى تقديم تنازلات لبعض القوى الإقليمية للبقاء على تموضعها الحالي.

المثال الأوضح هو موقف تركيا. روسيا استفادت سابقًا من أوراقها الاقتصادية، خصوصًا مشاريع تصدير الغاز إلى تركيا، وعبرها إلى أوروبا، وكذلك تمويلها وبناءها محطة "آق قويو" النووية في مرسين في جنوب تركيا بتكلفة نحو 20 مليار دولار. ملف الغاز تقلص بشكل كبير، وقدرة روسيا على متابعة تمويل محطة "آق قويو" مشكوك بها، ناهيك عن العقوبات التي تضغط حاليًا بعض القوى الأوروبية لفرضها على شركة "Rosatom" الروسية المنفذة لمشروع "آق قويو"، وهي لا تزال حتى الآن بعيدة عن العقوبات الغربية.

بسبب هذه المحدودية، اضطرت روسيا إلى لعب ورقتها الوحيدة المغرية للحكومة التركية، وهي العودة للحديث عن صفقة مصالحة مع سوريا وعقد لقاء رباعي روسي-تركي-إيراني-سوري. ولكن هل يكفي هذا الملف وحده لإغراء الحكومة التركية الآن؟ وهل تستطيع روسيا فعلًا الضغط على القيادة السورية – التي لا تزال ترفض الاعتراف رسميًا باللقاءات التي عقدت حتى الآن مع تركيا – للمضي نحو مثل هذه المصالحة؟

توجه القيادة السورية في الأسبوعين الأخيرين للانفتاح على العالم العربي لا يمكن فصله بالكامل عما يحصل بين روسيا وأوكرانيا. والخطاب الأخير للرئيس السوري، بعيد زلزال 6 فبراير/شباط، كان قاتمًا بشكل لافت في ما يخص الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. وقد ركز على شكر "الأشقاء العرب" مع عدم تسمية روسيا في ما يتعلق بالمساعدات الإغاثية. وأعقب ذلك بزيارة إلى سلطنة عمان وتسريبات متتالية حول تقارب مع السعودية. هل هذه تحركات سورية لتجنب الاضطرار إلى عقد مصالحة من موقع الضعف مع تركيا؟ هذا ملف يحتاج إلى نقاش المطول، لكن الأكيد أن نفوذ روسيا فيه بات أقل بكثير مما كان قبل الحرب الروسية-الأوكرانية.

 وبعيدًا عن سوريا وتركيا، رأينا كيف انسحبت شركة "Novatek" الروسية للنفط، في أغسطس/آب 2022، من اتفاق استكشاف النفط والغاز في المياه اللبنانية، وذلك برغم قرب التوصل إلى اتفاق حول الحدود البحرية اللبنانية-الإسرائيلية. انسحاب المزيد من الشركات الروسية من المنطقة هو أمر عالي الاحتمال. وهناك مشروع محطة "الضبعة" النووية في مصر الذي يُنتظر أن تموله روسيا وتنفذه "Rosatom"، وهناك مشاريع صناعية وتجارية روسيا في الموانئ المصرية وفي المنطقة الاقتصادية التابعة لقناة السويس. وكان هناك رهان على أن تكون هذه المشاريع بوابة الاقتصاد الروسي لأفريقيا. صفقات الأسلحة الروسية لدول المنطقة تتراجع بشكل واضح، ورأينا كيف طويت صفحة صفقة توريد المقاتلة الروسية "Su-35" لمصر، ونرى كذلك تذمر الجزائر – أكبر مستورد للسلاح الروسي بين الدول العربية والأفريقية – بسبب عدم قدرة روسيا على تزويدها بما تحتاجه للحفاظ على تفوقها الدفاعي في محيطها.

كما تجدر الإشارة إلى الانعكاسات غير المباشرة للحرب، والمتمثلة في أزمة توريد الطاقة إلى دول المنطقة، وارتفاع فاتورة الأمن الغذائي (مشهد الطوابير على المواد الغذائية الحيوية الذي ظهر في تونس في الأسابيع الأخيرة مرشح للتكرار في المنطقة). كما أن نزيف النقد الأجنبي الهارب من الأسواق العربية نحو المصارف الغربية بعد رفع معدلات الفائدة هناك، دفع قيمة العديد من العملات العربية للانخفاض بشكل حاد. وهذا ما نراه بوضوح الآن في مصر.

وبالعودة إلى روسيا، يمكن أن تبطئ القيادة الروسية الانكماش الاقتصادي عبر الحفاظ على معدلات الإنفاق العام، وما يعنيه ذلك من استنزاف لاحتياطات النقد الأجنبي وصناديق الطوارئ ومتابعة الاقتراض. لكن الحفاظ على النفوذ في الخارج يحتاج إلى قدرات مالية فائضة وشركات قادرة على المنافسة ومتحررة من القيود الدولية، وهذا ما لم تعد روسيا تمتلكه بالقدر نفسه.

الاقتصاد السياسي للبنى التحتية في سوريا: الكهرباء مثالًا

يتركّز النقاش السوري على مدى توفّر المواد الأولية اللازمة لتلبية المتطلبات المباشرة للسوريين، خصوصًا..

محمد صالح الفتيح
حسمٌ متعثر في طرابلس وتفضيل دولي للوضع الراهن

إن كان سوء الظن من حسن الفطن، فلا بد من التساؤل عما إذا كانت مصالح شركات النفط الفرنسية، توتال،..

محمد صالح الفتيح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة