تنظيم "داعش": القدرة الفريدة على العودة المتكررة   

حصول "داعش" على عوائد نقدية أو عينية لقاء تسهيل الحركة التجارية في وسط سوريا يكاد يكون "سرًا شائعًا". اليوم، بات بالإمكان تقدير حجم العوائد المالية لخلايا "داعش" في سوريا بملايين الدولارات شهريًا، ويُحتمل أن تزيد هذه العوائد عمّا كان التنظيم يجنيه في الموصل في النصف الأول من 2014.

في الصورة: الدنانير الذهبية التي اعتمدها "داعش" كعملة رسميّة له عام 2014


لطالما تناقل ضحايا تنظيم "داعش" وخصومه الكثير من السرديات الرغبويّة عنه، خصوصًا حول مصادر تمويله وتسليحه ومعلوماته. السردية المفضلة، المفرطة في تبسيطها، والتي لا تزال منتشرة حتى اليوم، هي أنه مدعوم دوليًا، سواء من قبل بعض دول المنطقة أو حتى من قبل الولايات المتحدة. إحدى السرديات المتكررة، بما في ذلك من قبل وسائل إعلام رسمية، هي أن التنظيم ينشط في سوريا انطلاقًا من المواقع التي تحتلها القوات الأميركية والجماعات السورية التابعة لها، ولاسيما عند مثلث الحدود السورية-العراقية-الأردنية. سردية الداعم والمحرك الخارجي لها جاذبيتها. فهي تبرّئ الكثير من المعنيين، وتنفي الحاجة للخوض في دوافع انتشار الفكر المتطرف، وتنسجم كذلك مع أسلوب التفكير المهيمن الذي يعلّق كل ما يحصل على مؤامرة كبرى مصدرها الشيطان الأكبر الذي يفتعل الحروب والأزمات لخدمة مصالحه، سواء كان ذلك لتمرير (أو لمنع تمرير) أنبوب غاز أو أنبوب نفط، أو لحرمان الدول من ثرواتها النفطية والمالية، أو لمنعها من ممارسة حقوقها السيادية بالتحالف وتغيير التوجهات الاقتصادية، بما في ذلك التوجه شرقًا. فما الذي يمنع الولايات المتحدة من أن تدعم تنظيمًا إرهابيًا ما! الولايات المتحدة دعمت بالفعل، في أكثر من مناسبة، وبشكل مباشر أو غير مباشر، تنظيمات إسلامية، بما في ذلك في سوريا. وفي الحقيقة، وكقاعدة عامة، من الصعب أن نجد تنظيمًا إرهابيًا في أي بلد من دون أن يكون له مستوى من العلاقات المباشرة أو غير المباشرة مع أجهزة أمنية في بلدان الجوار، أو حتى في البلد نفسه. ولكن لنتوقف قليلًا ونعد خطوةً إلى الوراء. ما الهدف من الخوض في العلاقات الدولية المحتملة لتنظيم إرهابي ما؟ السؤال اليوم حول تنظيم "داعش" يتزامن مع الذكرى الثامنة لإعلان التنظيم عودة الخلافة. مسألة "العودة" مهمة بشكل خاص لتنظيم "داعش" الذي هُزم وعاد وبُعث مرّات عدة. جذور تأسيس التنظيم تعود إلى الخليّة التي أنشأها في أفغانستان، قبل 23 عامًا، أبو مصعب الزرقاوي، والذي انتقل إلى العراق ترقبًا للغزو الأميركي. تلك الخلية فرّخت خلايا أخرى، وتحالفت مع تنظيمات محلية. المحطة الأبرز في التطور تمثلت بالإعلان عن "دولة العراق الإسلامية" في العام 2006. مضاعفة الولايات المتحدة لقواتها في العراق وتجنيد عشرات الألوف من أبناء العشائر "السنّية" تحت مظلة "الصحوات" سمح باحتواء هذا التنظيم بحلول 2009 وقتل قائده ونائبه في 2010. نجح التنظيم بالعودة مرة أخرى في النصف الثاني من 2011، مع انسحاب القوات الأميركية وظهور حركة احتجاجية ضد حكومة نوري المالكي، ثم راح يتمدد بصمت إلى سوريا. ولكن بحلول ربيع 2013، كان التنظيم قد تعرّض لانتكاسات كبرى في العراق وسوريا، وذلك نتيجة الحملات الأمنية في العراق، وظهور الخلافات مع حلفاء الأمس في سوريا. وفي يونيو/حزيران 2014، نجح التنظيم بالعودة مرة أخرى بقوة من بوابة الموصل، قبل أن يبدأ الانتكاس في النصف الثاني من 2015. إذًا علينا أن نبحث عما يساعد التنظيم على العودة المتكررة بعد كل هذه الانتكاسات. الانتكاسة الأخيرة للتنظيم هي الأقسى من حيث الخسائر البشرية والتراجع عن النفوذ السابق. لكن "داعش" المنتكس لا يزال اليوم أقوى بكثير من مراحل انتكاساته السابقة، بين 2009 و2011، وبين 2013 و2014، سواء من حيث مقارنة استمرار العمليات وحرية الحركة، أو عدد العناصر المتبقي له وموارده المالية. دراسة مراحل الانتكاس هذه هي ما يجب التركيز عليه لمعرفة ما إذا كان من الممكن أن يعود هذا التنظيم للانتعاش مرة ثالثة أو رابعة.

القسم الأهم من تمويل "داعش"، والذي يشكل ملايين الدولارات شهريًا، جاء من خلال "أتاوات" يفرضها على مختلف الأنشطة التجارية والخدمية في غرب العراق

سردية الدعم الخارجي، خصوصًا الصلات المزعومة بالولايات المتحدة، لا تقدم تفسيرًا مقنعًا. تجربة "طالبان" في أفغانستان تثبت أن التنظيمات الإسلامية المتطرفة ليست ظاهرة عابرة، وهذا ما تؤكده أيضًا ظاهرة الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيمي "القاعدة" و"داعش" في شرق نيجيريا وفي مالي. تجربة "طالبان" مع باكستان تظهر أيضًا أن الداعمين الخارجيين لا يمتلكون القدرة على فرض إملاءاتهم، وعلى ضبط الجماعات المتطرفة التي تحتفظ بحرية حركة كبيرة. القدرة على البقاء والاحتفاظ بحرية الحركة والمناورة تعتمد بشكل كبير على امتلاك الموارد ومصادر التمويل. سردية أن ضابطًا ما من المخابرات المركزية الأميركية يهبط، من وقت لآخر، بمروحية، في ركن صحراوي مجهول، حاملًا حقيبة مليئة بالدولارات ليعطيها لزعيم تنظيم إرهابي، هي سردية سينمائية مشوّقة ورائجة، ولكنها، كغالبية السرديات الرائجة في منطقتنا، غير صحيحة. التحقيقات العراقية حول عوامل سقوط الموصل، والتي نُشرت في يونيو/حزيران 2018، تشير إلى مصادر تمويل متنوعة استفاد منها "داعش" في السنوات السابقة لسيطرته على الموصل. كان التنظيم يحصل على تبرعات من بعض المتعاطفين، إلا أن القسم الأهم من التمويل، والذي يشكل ملايين الدولارات شهريًا، جاء من خلال "أتاوات" يفرضها على مختلف الأنشطة التجارية والخدمية في غرب العراق. ويشمل ذلك أتاوات على عمليات نقل النفط الخام ومشتقاته، ونقل المنتجات الزراعية، ومرور الشاحنات التجارية عبر الحواجز التي يسيطر عليها، فضلًا عن الأتاوات المفروضة على أصحاب الأنشطة التجارية والخدمية، سواء كانوا أطباء أو حرفيين أو حتى مشغّلي المولدات الكهربائية. كان "داعش" يقتطع لنفسه كذلك حصةً من عوائد عمليات بناء العقارات في الموصل وبيعها وتأجيرها. منفذو المشاريع، بما في ذلك الدوائر الحكومية، كانوا يدفعون أتاوات للتنظيم الإرهابي. في أكتوبر/تشرين الأول 2012، كان التنظيم يجني خمسة ملايين دولار شهريًا من مدينة الموصل وحدها، بحسب زهير الجلبي، مستشار وزير المصالحة الوطنية آنذاك. وقبيل سقوط الموصل في يونيو/حزيران 2014، ارتفعت التقديرات حول عوائد التنظيم من الموصل وحدها إلى 11 مليون دولار. ويقدر كذلك أن 40% من موازنة تنمية الموصل، اعتبارًا من 2011، كانت تؤول إلى جيوب "داعش". صحيح أن التنظيم الإرهابي كان يستخدم عمليات الخطف للحصول على مقابل مالي، ولكن عمليات الاختطاف هذه كانت مجرد أداة للتهديد، وإلى خيار أخير للتنظيم، الذي أدرك المقيمون في غرب العراق أن الدفع له هو أهون الشرور. لم تكن الدولة العراقية غائبة فحسب، وذات حضور أمني وهمي، بل إن مئات من الوظائف الحكومية الوهمية في الموصل – ما يسمّيه العراقيون بـ"الفضائيين" - كانت وظائف وهمية لصالح "داعش"، منها 300 وظيفة وهمية في دائرة بلدية الموصل وحدها. توصيف الأجهزة الأمنية العراقية آنذاك بالفاشلة أو المخترَقة من جانب "داعش" هو تبسيط للظاهرة: تلك الأجهزة كانت متعايشة مع التنظيم الإرهابي لأنها كانت غارقة بدورها في الفساد، عبر فرضها الأتاوات والبحث عن الرشاوى. كما أن عمليات الاختطاف لطلب الفدى، من جانب الأجهزة الأمنية، كانت ممارسة شائعة. الأجهزة الأمنية كذلك كانت تتعاون بشكل مباشر مع "داعش"، بما في ذلك إطلاق موقوفين مقابل رشاوى مالية. فرضوان الحمدوني، وهو أوّل والٍ نصّبه "داعش" على الموصل، كان موقوفًا وأُفرج عنه بعدما حصل القائد الأمني والعسكري الحكومي للموصل، الفريق الركن مهدي الغراوي، على 70,000 دولار. ومن المفارقات أن نوري المالكي كان قد عيّن مهدي الغراوي في منصبه في 2011، وكلّفه بالإشراف على لجنة استُحدثت "لمكافحة الجزية" التي كان يفرضها "داعش" آنذاك.

حصول "داعش" على عوائد نقدية أو عينية لقاء تسهيل الحركة التجارية في وسط سوريا يكاد يكون "سرًا شائعًا"

تنظيم "داعش" اليوم يعيش مجددًا مرحلة ما بعد الهزيمة، حيث يكتفي بالعمليات المتفرقة ويتجنب الإعلان عن سيطرة صريحة على مساحة جغرافية يمكن استهدافها بشكل مباشر. لكنّ هذه قد لا تكون سمة الشّبه الأخطر مع مرحلة ما قبل يونيو/حزيران 2014. سمة الشبه الأخطر تتمثل باستمرار قدرة التنظيم على الحصول على موارد مالية مستقرة ومتزايدة. الأحوال في العراق اليوم قد لا تكون أسوأ مما كانت عليه بالمقارنة مع مرحلة ما قبل يونيو/حزيران 2014، إلا أنها، على الأرجح، ليست أفضل بكثير. الأمر الأخطر هو أن خلايا "داعش" باتت تحصل على عوائد مالية مهمة في الشرق السوري أيضًا. إذ إنها تجمع الأتاوات هناك من المزارعين وأصحاب الحرف والأنشطة التجارية المختلفة، كما تمارس الاختطاف وتطالب بالفدى المالية. غير أن مصدر التمويل الأهم قد يتمثل بالعوائد المالية التي يجنيها التنظيم لقاء غض الطرف عما يُفترض أنه حركة تجارة غير شرعية، خصوصًا تلك المتعلقة بنقل النفط من شمال شرق سوريا إلى غربها. عمليات نقل النفط هذه تبلغ في الحد الأدنى عشرات الصهاريج يوميًا، ويمكن أن تصل إلى المئات، في حركة تجارية تقدّر قيمتها بملايين الدولارات يوميًا. تلك المشتقات النفطية تباع في غرب سوريا بأربع أو خمس أضعاف سعرها الأصلي في شمال شرق البلاد. الهامش الكبير بين الرقمين يذهب بطبيعة الحال لجيوب المتنفذين المسيطرين على هذه التجارة. واحد من الأسئلة المهمة التي لم تُطرح طوال السنوات الماضية تتصل بنجاح "داعش" بشكل متكرر في سوريا باستهداف قوافل الجيش السوري، وبإيقاع عشرات القتلى فيه في بعض الحالات، بينما لم يقم، ولا لمرة، باستهداف قوافل صهاريج النفط التي تتحرك يوميًا على مسارات معروفة تمتد لمئات الكيلومترات. ظاهرة الأتاوات على خطوط التجارة في سوريا هي أمر يتم التعامل معه كأمر واقع. هناك تصريح لافت يمكن الإشارة إليه وهو تصريح رئيس لجنة التصدير في غرفة زراعة اللاذقية، بسام العلي، لموقع "الاقتصادي" السوري، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حيث قال إن تكلفة نقل الشاحنة الواحدة المحملة بالفواكه السورية إلى العراق تبلغ حوالي 7000 دولار يدفع منها 3000 دولار كـ"ضرائب" بين اللاذقية والبوكمال. هل هذه الشاحنات – على عكس قوافل الجيش السوري – محصنة من استهداف "داعش"؟ وهل للتنظيم حصة من "الضرائب" التي تذهب لجيوب متنفذين معروفين؟ حصول "داعش" على عوائد نقدية أو عينية لقاء تسهيل الحركة التجارية في وسط سوريا يكاد يكون "سرًا شائعًا". ففي مطلع 2015، حصل التنظيم على 48,000 طنّ من القمح، شكلت حينها خُمس كمية القمح المنقولة من شمال شرق البلاد، لمصلحة الحكومة السورية التي أسندت مهمة نقل القمح لشركة "المهيمن للنقل والمقاولات"، وهي جزء من "مجموعة أمان القابضة"، التي يعرفها السوريون بفضل مشروع "ماروتا سيتي" "للتطوير" العقاري في دمشق. عمومًا، بالإمكان تقدير حجم العوائد المالية لخلايا "داعش" في سوريا اليوم بملايين الدولارات شهريًا، ويُحتمل أن تزيد هذه العوائد عمّا كان التنظيم يجنيه في الموصل في النصف الأول من 2014. يمكن الوصول إلى هذا التقدير سواء عبر تقدير حجم الأنشطة التجارية التي تمرّ بسلام مريب في وسط سوريا، أو من خلال ملاحظة تصاعد وتيرة أنشطة التنظيم، أو تمكّنه، على سبيل المثال، من دفع آلاف الدولارات لتهريب العناصر التابعة له من المخيمات الواقعة تحت سيطرة تنظيم "قسد". ففي 29 يناير/كانون الثاني 2021، ذكر تقرير لمجلس الأمن أعدته "لجنة معاقبة القاعدة وتنظيم داعش"، أن تكلفة تهريب الشخص الواحد من المخيمات التي تديرها "قسد" في شمال شرق سوريا تتراوح ما بين 3000 و14000 دولار أميركي. قدّر ذلك التقرير أن الاحتياطات المالية للتنظيم، في تلك المرحلة، يمكن أن تصل إلى 100 مليون دولار، وهذا ما يؤكد أنه يمتلك مقومات البقاء لفترة طويلة، وأن الظروف مؤاتية لعودته إلى الساحة مرة جديدة. الأكيد أن ظاهرة التطرف الإسلامي معقّدة، تتداخل فيها عوامل انتشار الأفكار العنيفة بتلك المرتبطة بتأخر التنمية الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية، والتي تجد في كثير من الأحيان من يستثمر بها بشكل مباشر. معالجة هذه العوامل تحتاج لسنوات في الحد الأدنى، وربما لعقود. لكن هذه العوامل لا تكفي لتحويل الظواهر المتطرفة إلى بنادق ومتفجرات، وإلى ظهورها على شاكلة آلاف المجندين الذين يتلقون رواتب شهريّة. يمكن القول، والحال هذه، إن تجفيف مصادر التمويل هو الخطوة العلاجية الأسرع والأكثر فعالية لمنع عودة جديدة لـ"داعش". هذا مع العلم أن التنظيم ما زال قادرًا على جني موارد مالية هائلة واستخدامها، وسط غضّ نظر متعمّد من المعنيين، فضلًا عن تعايش مباشر معه في كثير من الحالات. إن كان ثمة درس يجب عدم نسيانه من تجربة سقوط الموصل في يونيو/حزيران 2014، فهو أن التعايش مع الإرهاب والشراكة معه – سواء كان ذلك من منطلق براغماتي أو ناجمًا عن عجز – ستكون له عواقب وخيمة بكل تأكيد.   

الاقتصاد السياسي للبنى التحتية في سوريا: الكهرباء مثالًا

يتركّز النقاش السوري على مدى توفّر المواد الأولية اللازمة لتلبية المتطلبات المباشرة للسوريين، خصوصًا لجه...

محمد صالح الفتيح
الآثار الاقتصادية العميقة للحرب الروسيّة - الأوكرانيّة

قد تتمكن القيادة الروسية من الحد من الانكماش الاقتصادي. لكن الحفاظ على النفوذ في الخارج يحتاج إلى قدرات م...

محمد صالح الفتيح
ترامب أو بايدن: منظور دمشق وطهران

التحدي الذي سيواجه إيران هو تحديد الجرعة المناسبة من التصعيد التي تساعد الإدارة الأميركية على إظهار أن تخ...

محمد صالح الفتيح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة