"أنا ما قالتِ الكلماتُ"
يقتربُ الموعد المحدّد لتسليم النص. أتأمّل ما كتبتُه أمامي. أشعر بأنني لَحَنتُ في إجابتي وانحرفتُ عن المناسبة. أهذا ما أردتُ قولَه حقًّا في إحياء يوم اللغة العربية؟
يقتربُ الموعد المحدّد لتسليم النص. أتأمّل ما كتبتُه أمامي. أشعر بأنني لَحَنتُ في إجابتي وانحرفتُ عن المناسبة. أهذا ما أردتُ قولَه حقًّا في إحياء يوم اللغة العربية؟
ما إن دعتْني منصّة "أوان" إلى مشاركة هذا النص، حتى قبلتُ على الفور. كيف أرفض؟ والموضوع عن ضالّتي ومُلهمَتي وشاغلتي.
جلستُ إلى طاولة الكمبيوتر بحماس. أنشأتُ ملفًا جديدًا وهممتُ بالكتابة، مرّةً، مرّتين. لم أستطع كتابةَ حرفٍ واحد. تراجعتُ، وظلّ بياضُ الصفحةِ أمامي مُزعِجًا ومُستَفزًّا.
كيف أُقاربُ موضوعًا من أعقد الموضوعات وأكثرها جدلًا وراهنيّةً على مرّ عقود؟ كيفَ أكتبُ نصًّا بعددٍ محدودٍ من الكلمات والحديثُ عنها يُغري بآلاف الصفحات؟ ماذا أقول عن اللغة العربية في يومها العالمي؟ هل أنقدُها وأعاتبها وأرثيها، أم أحتفل بها وأعدّد مناقبها وأتمنى لها العمر الطويل؟
أبدأ بحثًا سريعًا على الانترنت للاستلهام. أقفزُ فوق الصفحات التي تكرّر أرقامًا مبتذلة عن كونها اللغة الرسمية في ست وعشرين دولة، يتحدث بها قرابة أربعمئة مليون نسمة، برصيدٍ من المفردات يتجاوز المليون والمئتي ألف مفردة.
تبدو لي هذه الأرقام، على صحّتها، طريقة ساذجة لإثبات مكانة اللغة، فأهملُها. وأهملُ معها الأخبار التي تورد تاريخ اعتماد اللغة العربية من ضمن اللغات الستّ الرسمية المعمول بها في الأمم المتحدة، وتخصيص يومٍ عالميّ لها في الثامن عشر من كانون الأول/يناير. أمرُّ شَزْرًا على تلك الكليشيهات والاحتفاءات الشكلية، وأقرّر أن أذهب في بحثي أبعدَ وأعمق.
أؤيد الطرف المُدافع عن اللغة العربية لأسبابٍ تمتدّ نحو سيكولوجيّة الإنسان العربي وظروفنا الراهنة كشعوب مقهورة ومُهَمّشة
تقودني المطالعات إلى إشكاليات واضحة، وإن لم تكن جديدة. فريقٌ يتّهم اللغة العربية بالجمود والعجز عن مواكبة التطور العلمي والطبّي والتجاريّ والتقنيّ وحتى القانوني، ويقلّل من أهميّة دورها التاريخي ويؤكد على انحسار تأثيرها في اللغات والحضارات الأخرى. لا بل يذهبُ عتاولة هذا الرأي إلى حدّ الدعوة إلى حَصْر اللغة العربية في دور العبادة.
في المقابل، فريق آخر يدافع عن مرونة اللغة ورحابتها وقدرتها على استيعاب التغيير واللحاق بالجديد، ويسوق هذا الفريق براهين من فِقْه اللغة وانطوائها على وسائل لتوليد المفردات أهمّها "علم الاشتقاق" بأنواعه، بدءًا من الاشتقاق الصغير فالكبير والأكبر وصولًا إلى "الكُبّار" أو "النحت"، إلى جانب "الوَضْع" كاستجابةٍ تطويعية وحداثية.
أنصرفُ عن تلك النقاشات إذ أجدها شديدة التخصّص ولا تلائم مِنبَري. جدالٌ كهذا يتطلّب دراساتٍ مُفَصّلة بمناهجَ وأمثلة، والأفضلُ أن أتركه لمراكز البحث والمختصّين. وإن كنتُ، بلا مواربة، أؤيد الطرف الثاني المُدافع عن اللغة العربية لأسبابٍ لا تتعلّق بكُنهها فحسب، بل تمتدّ نحو سيكولوجيّة الإنسان العربي والأنثروپولوجيا اللغوية وظروفنا الراهنة كشعوب مقهورة ومُهَمّشة، تشكو مجتمعاتها من تعطيل المؤسسات وتقديس الثوابت والخوف من التجديد والاستسلام للموروث والمُكَرّس.
أكبحُ استطراداتي الفكرية وأعود إلى صفحتي البيضاء. ماذا سأكتب؟ هل أتناول مشكلة الفصحى والعاميّة؟ هل أحكي عن تعدد اللهجات في العالم العربي وفي كلّ دولة عربية على حدة وأستعرض تأثيرات ذلك، السلبية والإيجابية، على لغتنا الفصيحة؟ أستبعدُ الفكرة بسرعة وأجد أنها لا تناسب طبيعة النصّ المرجو، وأن التناولَ المُختَصَر والمُتعجّل سيفضي إلى معالجة مبتَسَرة بلا خلاصات ولا نتائج.
أُغلق كل نوافذ البحث. أدنو من صفحتي البيضاء من جديد وأكتب:
في المساءات الشتوية، نتحلّق حول مائدة عشاء بيتوتية. تتولّى أمّي إحياء الجلسات باستباق مقرّراتنا المدرسية. فتشرحُ لي ولإخوتي عن تاء الفاعل المتحرّكة والضمير المُستتر ونائب المفعول المطلق. ثم تعقدُ لنا مسابقاتٍ في الإعراب، فيَطَّردُ الحماس وتعلو الأصوات.
ترفضُ أمي الإجابات السريعة، وتشترطُ على المُتسابق أن يفسّر معنى الجملة قبل أن يُعرب مفرداتها. تستحضرُ أمي أقوالًا وأبياتٍ من عيون الأدب العربي، وتبالغ في تصعيب الأسئلة لتحتدمَ المنافسة ويشتدّ التصفيق. وما إن نُنهي متعتَنا وعشاءنا ونخلد إلى أسرّتنا حتى تأتي أمي وتوصينا في العتمة همسًا: "راجعوا في أذهانكم دروسكم الحفظية فقط. لا تخافوا من شرح الأبيات أو الإعراب. اللغة فَهْمٌ ومنطق. إن فهمتم لغتَكم ملكتموها".
هكذا، أهدتْني العربيّةُ ذكريات عائلية ثمينة وحِرصًا دائمًا على الفهم قبل الإجابة.
"استحقّتْ الطالبة زينة حموي من الصف الثاني الإعدادي الجائزةَ الأولى لتفوّقها في جميع المواد".
جملةٌ واحدة خطّتها مديرة المدرسة على هديّتي، وتحديدًا على الصفحة الأولى من كتاب "العرف الطيّب في شرح ديوان أبي الطيّب" لـ ناصيف اليازجي. جملةٌ كافية لتحفيزي على قراءة الكتاب مهما بدا وقتَها عصيًّا وسابقًا لسنّي.
استنجدتُ بمكتبة البيت، وبالمكتبة الروحية في حلب، ورحتُ أبحثُ عن كتب أخرى في نفس الموضوع. فاهتديتُ إلى الشرح الذي وضعه مصطفى سبيتي، ثم وصلتُ إلى مُنجَز عبد الرحمن البرقوقي. ومن هناك، دخلتُ فردوسًا أشجارهُ من كتب، وأنهارهُ أسفارٌ في الزمان والمكان. سكّانه بشرٌ وحيوانٌ وجان. وامتلكتُ بالقراءة مفتاح العالم السرّي الموازي، العالم الذي يستحقّ فعلًا أن نسميَه العالم الآخر.
لا أذكر بالضبط من التي قادتني إلى الأخرى. هل العربيةُ هي من أوصلتَني إلى أهوائي الموسيقية، أم أن خياراتي في الأغنيات ساهمت في تمتين علاقتي بلغتي وتمكينها؟
كلّ ما أعلمه أنني في الفترة العُمْرية التي نسعى فيها إلى تشكيل ذائقتنا وآرائنا تزاوجتْ عندي اللغةُ والموسيقى وصارتا صِنْوَين يملآن حياتي. فقادتني القصائد التي غنّاها صباح فخري إلى دواوين ابن سناء الملك وبهاء الدين زهير والبوصيري. وبسبب أغنيات أم كلثوم رحتُ أتحرّى عن حياة وآثار أبي فراس الحمداني وبَيرم التونسي وابراهيم ناجي.
منحتني أغاني فيروز رحابةً في الخيال لم أعثر عليها في أيّ مكان آخر، وعلّمتني كيف أشيّدُ بلادًا كاملة بقُراها ومُدُنها وناسها وعُشّاقها وهمومها مُستعينةً بالكلمات فقط. ثم اكتشفتُ أن لكلّ نصٍّ عربيٍّ، فصيحٍ وعامّي، موسيقى داخلية، وهي غير اللحن، نلتقطها بقدر ما نمتلك من صفاء وحسٍّ فنّي. وبذلك سَمَتْ لغتي بي وبمراهقتي، وأكسبتني قوّةً رهيفة أدركُ من خلالها الفنون وأستعينُ بها على جلافة الحياة.
لا شكّ أن علاقتي باللغة كانت من أهم أسباب اختياري لدراسة الإعلام. ولا شك أيضًا أن القراءة منحتني الكتابة. وعلى مدار سنواتي الجامعية والمهنية حتى الآن، دائمًا ما تكون اللغة هاجسي ومَطْلَبي. فلا أذكر أنني قدّمتُ نصًّا أو خبرًا أو تقريرًا أو مقالة إلا وتسقّطتُ في رجع الصدى تعليقًا حول اللغة.
يسرع كثير من المغتربين من أبناء وطني إلى خلع جلودهم ويرتمون في حضن المكان الجديد بانبهار أخرق، ويتباهون بأولادهم الذين لا يجيدون العربية
لطالما استمعتُ باهتمام وجديّة إلى آراء أساتذتي في الجامعة ورؤساء التحرير ومديري دور النشر حول أفكاري وموضوعاتي، لكن ملاحظاتهم حول لغتي كانت شاغلي الأكبر. كما لو أنّ لغتي ابنتي، من واجبي أن أرعاها وأصونها وأُجزِلَ العطاءَ في سبيلها قبل أن أطلقها إلى العالم جميلةً ومُشرقةً وفاعلة.
في أوّل تبادلٍ للهدايا، كانت اللغةُ قاسمَنا المشترك ودليلَنا على صوابيّة حبّنا. اخترتُ له كتاب "سبعون" بأجزائه الثلاثة لـ ميخائيل نعيمة، شارحةً له فكرتي عن الفرق بين الكاتب والأديب. واختار لي "هكذا تكلّم ابن عربي" لـ نصر حامد أبو زيد، رغبةً منه في تعريفي مبكّرًا على مفهومه لله والدين والوطن والإنسان.
لم نفتّش على دلالات كثيرة لنتأكّد من إمكانية نجاح العلاقة. اكتفَينا ببضعة كتب ورسائل وأحاديث عمّا يشغلنا في أوقات الفراغ، وكانت اللغة حاضرةً فيها كلّها.
أصعبُ اختبارٍ في الغربة كان شعوري بأنني فقدتُ الأرضَ من تحتي وأضعتُ بَدَهيّاتي: لا أمان، لا استقرار، لا ثبات. هويّتي مهدّدة ولغتي محاصرة. من أنا؟ كيف أقدّم نفسي في مجتمعي الجديد؟ كيفَ أصحّح لهؤلاء الغرباء فكرتهم عنّي وعن بلدي وطريقتهم الخاطئة في مناداتي ولفظ اسمي؟
حتى المغتربون من أبناء وطني بدا لي بعضهم غريبًا ومُخيفًا. يسرعون إلى خلع جلودهم ويرتمون في حضن المكان الجديد بانبهار أخرق وتزلّف مقرف. يتسابقون إلى تطعيم كلامهم بكلمات أجنبية ويتباهون بأولادهم الذين لا يجيدون العربية.
أشفق عليهم من داء احتقار الذات، وأرثي لحال أجيالٍ ستنمو منقوصة الانتماء وعائلاتٍ بأكملها ستُفاجأ يومًا بألّا شيء يجمعُ أفرادها ولا ذكرى تلمّ شملهم. ليس بينهم مشتركات لغوية؛ لا نكتة، ولا قفشة، ولا إجماع على حبّ أغنية أو كتاب. لا يحفظون مقاطع من فيلم أو مسرحية ليرددوها معًا في سهرة أو رحلة عائلية. أتذكّر مخزوني العائلي واللغوي والوطني وأتحسّر وألعنُ من سلبني إيّاها.
ألوذُ باللغة، وأقضي ليالي الشتاء الطويل وأنا أشاهد من أرشيف التلفزيون السوري لقاء نزار قباني مع رياض نعسان آغا يتحدّثان عن اللغة والشعر والحبّ ودمشق. أفتحُ ديوان "لماذا تركتَ الحصانَ وحيدًا" لـ محمود درويش، وأقرأ من قصيدة "قافيةٌ من أجل المعلّقات":
"ما دلّني أحدٌ عليّ. أنا الدليلُ، أنا الدليلُ
إليّ بين البحر والصحراء. من لغتي ولدتُ
على طريق الهند بين قبيلتَين صغيرتَين عليهما
قَمَرُ الديانات القديمة، والسلام المستحيلُ
وعليهما أن تحفظا فَلَكَ الجوارِ الفارسي
وهاجسَ الروم الكبيرَ، ليهبط الزمنُ الثقيلُ
عن خيمة العربيّ أكثر. من أنا؟ هذا
سؤالُ الآخرين ولا جوابَ له. أنا لغتي أنا،
وأنا مُعَلَّقَة... مَعَلّقتان... عَشْرٌ، هذه لغتي
أنا لغتي."
يقتربُ الموعد المحدّد لتسليم المادة. أتأمّل ما كتبتُه أمامي. أشعر بأنني لَحَنتُ في إجابتي وانحرفتُ عن المناسبة. أهذا ما أردتُ قولَه حقًّا في إحياء يوم اللغة العربية؟
حسنًا، وما الضَّير؟ في هذا العالم المُثقل بالأرقام والإحصائيات، الساخر من العواطف والذكريات، الناقم على قِيَم العائلة والحبّ، المُنهَك والمعطوب من تناسخ الآراء والابتذال والتكرار، المُكَبَّل بظلم الديكتاتوريات والتطاول الأجنبي، كيفَ لي، حين أجلسُ أمام ورقة بيضاء، ألّا أنسف ذلك العالم وأشتمه وأتجاهله؟
كيفَ لي حينَ أُسأَل عن لغتي، هاجسي ومحبوبتي وصانعتي، ألّا أتعامى عن المُتَوَقّع والمطلوب وأجيبَ بنصٍّ حالمٍ ورومانسيٍّ ومُغرِقٍ في الذاتيّة!
"أنا ما قالت الكلمات": من قصيدة "قافيةٌ من أجل المعلّقات" لمحمود درويش.