كنتُ أنوي تقليد ذلك الشاعر في فيلم "الأبدية ويوم": أُرسل أطفالًا يشترون لي الكلمات من لغةٍ لا تعرفني ولا أعرفها، أصفّ الكلمات مثل قطع "بازل"، ثمّ -ومثل أيّ طفلٍ منهم- يغريني أكثر تفكيكها، فأفعل. وأحتفظ لنفسي باللثغة، التي ليس بمقدوري معرفة ما إذا كانت قادمةً من لكنةٍ، أم من كسورٍ غير مرئيّةٍ في الأسنان اللبنية التي ستتساقط عمّا قليل، لتنبت مكانها أُخرى أكثر قدرةً على قضم التفاح والخطايا.
في سوريا فقدتُ لهجتي. لم تعد أوائل كلماتي مضمومةً مثل باقة نرجس، ولا ياءاتي تفتح ذراعيها للهواء وتطير، صارت لهجتي هجينةً، أتلكّأ لأقرّر: هل أقول: هادا؟ أم هاد؟ أم هيدا؟ بات خروج الكلمات من فمي فعلًا مضنيًا، اتّسع صمتي، فرُحتُ أكتب.
استعذبتُ مراقبة الناس يتحدّثون الإسبانيّة بنبرةٍ واثقة، ترافقها حركات أيديهم المتصاعدة، الكلمات تتدافع للخروج من أفواههم مثل عُقد حبلٍ لا ينقطع. لكن، ما إن يحاول بعضهم التكلّم بالإنكليزية، حتى تتهاوى تلك الثقة بعد أوّل كلمة، لتنطلق التّأتأة، ترافقها رفّات الأعين، ورجفات الأكفّ. على عكسهم؛ الحديث بالإنكليزيّة يُحرّر فيَّ شخصيّة قويّة لم أعهدها في العربيّة. إذًاً: تتغيّر شخصية المرء حسب اللغة التي يتكلّم بها! أتُراهُ تعدّدًا؟ أم فصامًا؟
نحن جسورون داخل الكتابة، منفتحون في الحانة، بكّاؤون ضمن الأغاني، مقتولون في شفويّاتنا.
ضياعي الدائم في أليكانتي -هذه المدينة البحرية الوديعة- لم يكن مقتصرًا على اللغة فقط، بل ينسحب أيضًا على خرائط "غوغل"، وكأن بوصلة ممسوسة تقودني إلى اتجاهات مغلوطة. برغم ذلك، ثمة هنا شيءٌ يشبه الطمأنينة يحوّم حولك، شيءٌ يدع قدميك تصلان مهما تاهتا. هذا أمرٌ بديع، لكنّه يعصر قلبي إذ أتذكّر الخوف الّذي لطالما رافق خطواتي في سوريا، حتّى ليخالني النّاس هو.
أنبشُ ركام البيوت والأرواح المتعبة: لا أثر للأمان. لبيتي في سوريا بابان، لكلٍّ منهما قفلٌ بطقّتين، كلّ هذا لم يفلح بحجز الأمان داخله. أمّا في ذاك البيت البعيد الذي تناقل مفتاحه غرباء كثر، فقد نمتُ قريرة العين!
"آخر معارك الحرب الأهلية الإسبانيّة كانت في أليكانتي"، قال أصدقائي خلال جولة داخل ملجأ بمؤثّرات صوتيّة تحاكي القصف وصفّارات الإنذار. ربّتَ صديقٌ على كتفي لظنّه أن الأمر يستدعي لدي ذكرياتٍ قريبة.
- هل حصلت أمورٌ مماثلة في مدينتك؟ سألني.
- لا، فقط كنا نقترع على الغرفة الأكثر أمانًا في البناء، وننحشر فيها.
- وهل كانت صفّارات الإنذار تنطلق؟
كتمتُ ضحكتي ودمعةً تافهة كادت تخرج. ربّتَ على كتفي مجدّدًا.
خمسة يوروهات ليس ثمنًا باهظًا كي أحظى بتربيتة، كنتُ لأنالها على أيّ حال لو تكلّمت عن نفوق قطّتي السمينة، أو لو قصصت إحدى خيباتي العاطفية.
قلت لنفسي: ربّما كانت للحرب أيضًا وجوهٌ متعدّدة، حتى لو بدا أنها جميعًا تفضي إلى نتيجةٍ واحدة.
الأسبوع الماضي سمحوا للمكتبات بأن تعود إلى العمل في إيطاليا، رافق ذلك تصريح لطيف يقول ما معناه إن "الكتب هي وسيلة السفر الآمنة الوحيدة للنّاس الآن"في أواخر العام 2018، عدتُ من تلك الإقامة القصيرة في إسبانيا إلى بيتي في اللاذقية، محمّلة بهذه الأفكار، وضعتُ لها عنوانًا ظننتهُ جذّابًا: الأمان لا يتكلّم العربية. في الحقيقة علاقتي بمفردة بيت -وتحديدًا بياء الملكية المعلّقة في طرفها مثل طفلٍ يمسك ثوب أمّه- علاقة مضطربة. مرّاتٍ أقول: صرت أسكن داخل الأغنيات، ومرّاتٍ أرى في السفر غايات عدّة، منتهاها أن يدرك المرء -ولو متأخّرًا- أنّ العودة إلى البيت هي جلّ ما يرغب، حتّى إنني عنونت كتابي "أركل البيت وأخرج". في هذه الأيام، يعيد ملايين البشر تعريف علاقتهم بالبيت، كلّهم بين ليلةٍ وضحاها ألفوا أنفسهم محجوزين ضمن حدود هذا الفضاء الّذي صار عالمهم الوحيد المتاح، إلى حين. عنّي الآن أكتب وأنا في إسبانيا مجدّدًا، إقامة طويلة هذه المرة. لم أتخيل أن ينتهي الأمر بي إلى أن ينغلق عليّ باب غرفة تطلّ على حديقة صغيرة وكراج سيارات، وفي البعيد صيدلية. من حسن حظي أنها صيدلية، كي أميز أيام الآحاد عن سواها، فالسوبر ماركت، والصيدليات، وحدها من تفتح أبوابها وتشعل إنارتها في أيام "الكوارنتينا". في زياراتي الأسبوعية للسوبرماركت أمرّ بالصيدلية، وأنا أعرف الإجابة مسبقًا "آسفون ليس لدينا أقنعة". يبدو أن مروري صار عادة، أو أنني أحببت مفردة "ماسكاريّا Mascarilla"، وهي فرصة أسبوعية لأدفعها من فمي. اليوم لم أعد أستعين بـ"غوغل" وخرائطه، لكن هذه المهارة التي اكتستبتها قدماي متأخرتين، فقدت أهميتها، مثلها مثل أمور أخرى في الحياة، كبطاقة الطائرة والتأشيرة المختومة على جواز السفر. الأسبوع الماضي سمحوا للمكتبات بأن تعود إلى العمل في إيطاليا، رافق ذلك تصريح لطيف يقول ما معناه إن "الكتب هي وسيلة السفر الآمنة الوحيدة للنّاس الآن". أتفاعل بقلب أحمر كلما مرّ ذلك الخبر أمامي على "فيسبوك"، وأتأمّل ثلاثة كتبٍ عربية في غرفتي، كانت قد وصلتني في بريدٍ قادمٍ من مدريد ليلة إعلان الحجر فيها، وهي بالنسبة لي ليلة أوصد العالم بابه، فالعالم الّذي أعرفه له بابٌ واحدٌ مفتوحٌ بيني وبين عائلتي. لم أجرؤ على الاقتراب من الكتب الثلاثة حتى اليوم، أركنها على الرّف قرب كتب شعر ومجموعات قصصية إسبانية، فأنا لا أريد أن أسافر بالكلمات، سواء أكانت للغةٍ لا تعجبني شخصيّتي التي كبرت داخلها، أم للغةٍ ما أتيح لي اكتسابه منها غير كافٍ لاكتشاف كيف تصيّرني، ولا كي ينقذ طبيبٌ حياتي فيما لو قصدتُ المستشفى في هذه الأيام المجنونة، فمن غير العادل أن يُهدَر جهاز تنفّس على كلّ هذه الأخطاء اللغوية. أنا أريد أن أسافر حقًّا، أن أكون جسديًّا في بيتي. للمفارقة؛ واحدٌ من هذه الكتب لصاحبة ديوان "حتّى أتخلى عن فكرة البيوت". ابتعدتُ عن الأدب كثيرًا، وبشكل خاصّ عن كتابات الأدباء المتكاثرة حول الحجر وتجاربهم وتصوّراتهم لشكل الحياة ما بعد الفيروس، وأدمنت قراءة المقالات العلمية، والإحصائيات وتحليل البيانات، إلى أن وجدتُ نفسي عبدةً لهذا الفيروس، لقد استطاع أن يسخّرني لخدمته، من دون حتى أن يدخل هذه الغرفة التي أجلس فيها الآن، بينما جيرانٌ يطلّون من نوافذهم وشرفاتهم كي يصفّقوا للطاقم الطبي. كل يوم كنت أتوقع أن يملّوا، أرصد عجوزًا في البناء المقابل، الكفّان المعروقتان لا تتأخران ثانيةً واحدة عن أداء المهمة، حتى إنه يبتسم يا الله! مرّةً وحيدة فتحت نافذتي وصفّقت معه، ثم عقدت اتفاقًا ضمنيًّا: سأحرّرني نفسيًّا من الفيروس مقابل أن تبقى بخير، وافترضتُ أنّ ابتسامته المجعّدة هي توقيعه على الاتفاق. أفتحُ الآن صفحةً لا على التّعيين وأقرأ "هناك دائمًا ما يستحقّ الصمت*". أقول: هذا صحيح، وأضع نقطة. *من كتاب "في أثر عنايات الزيات"/ إيمان مرسال