عن مجزرة التضامن و"وهم الانتصار"

ستعود المقابر الجماعية إلى الواجهة، والسبب ببساطة أن هناك أشياء لا تُنسى، قد يحصل تواطؤ على تناسيها، لكن حصول هذا التواطؤ مشروطٌ بالتوافق، والتوافق كي يكون حقيقيًا مشروطٌ بجبر الضرر، وردّ الكرامات، وقبل كل شيء بتوقف القتل بمختلف أشكاله، ماديًّا كان أم معنويًا.

"كلّ السوريين مجرمون". "كلّ السوريين أبرياء". يستحيلُ اعتبارُ أيّ من الجملتين السابقتين صحيحةً بالطبع، وكذا الحال إذا استبدلنا بمفردة "السوريين" أي مفردة تدلّ على مجموعةٍ ما: أبناء منطقة، أو طائفة، أو أتباع دين، أو أعضاء مؤسسة، أو منظمة، أو أصحاب انتماء... إلخ. بقدر ما تبدو هذه المقدمة بديهية، ومكررة حدّ الاستهلاك، بقدر ما برعنا – نحن السوريين أنفسنا – في مناقضتها، وتبنّي عكسها مرّاتٍ ومرّات تأسيسًا على مغالطات منطقية. الغريبُ أنّ هذه المناقضة تكاد تكون طبيعية تمامًا في عالمٍ أعور. و"أعور" هنا ليست سُبّة أو شتيمة، بل هي كما أزعم توصيف تثبتُ دقّته يومًا بعد يوم، وحدثًا تلو الآخر. كنتُ "محظوظًا" إذ أتاح لي العمل الصحافي الميداني مواكبة أحداث كثيرة على أرض الواقع، وفي مرات عديدة مقابلة بعض أبطال هذا الحدث أو ذاك، وما أكثر المرات التي كنتُ أستغرب فيها تناقض روايتين لشخصين عاشا الحدث نفسه في المكان عينه. في البدايات كنتُ أُسلّم ببساطة بأنّ أحدهما يكذب، لكنّي شيئًا فشيئًا انتبهتُ إلى أن كلًّا من صاحبي الروايتين المتناقضتين "صادق"، ويروي "بالضبط" ما عاشه وشاهده بعينين تضبط إيقاعهما عين واحدة، يفعلُ ذلك مستندًا - في لا وعيه - إلى قناعات مُسبقة، لتؤدي الواقعةُ إلى تعزيز تبنيه تلك القناعات حدّ التسليم المُطلق. إنه ببساطة نوع من التأثير العاطفيّ على الإدراك، وهو تأثير مُضاعف يعمل على مسارين متوازيين ويلتقيان (في كسر للقاعدة الرياضية الشهيرة): لديّ معتقداتي التي تُريني الحدث من زاوية بعينها، ثمّ أعتبر هذه "الرؤية" برهانًا جديدًا على صحة معتقداتي، فترسخ أكثر. إنه نوعٌ من العوَر الذي يعزّزه كل شيء من حولنا: وسائل الإعلام التي نقرر أنها "الأفضل" لأنها تُسمعنا ما نرغب في سماعه، محركات البحث التي تُظهر لنا ما يتوافقُ مع سلوكياتنا على الشبكة، الخوارزميات التي تُغلق دائرة "السوشال ميديا" علينا مع نظرائنا دون غيرهم، وكسلنا واستسلامنا لما يُشعرنا بنوع من الرضا، فننكفئ ولا نفكر بمحاولة الخروج من الدائرة، "دائرة الراحة". بكل تأكيد، لا يسري الأمر على الجميع هنا، لكن محاولة "مط العنق" خارج الدائرة باتت في حدّ ذاتها مخاطرة محفوفة بالمشاق، ليس فقط لأنّ واحدنا يخاطر بـ"راحته"، بل لأن نظراءه داخل الدائرة ذاتها قد يعتبرون فعله خطرًا على راحتهم، ولأنّ صاحب العنق الممطوط – على الأرجح – سيصطدم بدائرة أخرى، تضم "آخرين" قد لا يترددون في اعتباره خطرًا على راحتهم أيضًا إلا إذا أخذ أعينهم، وضبطَ عينه وفقها، فشاهدَ ما يُراد له أن يُشاهد، وتبنى ما يُقرّر له من آراء، بل وعبّر عنها بالطريقة التي تُملى عليه.
بعد كل هذه السنوات، وعشرات آلاف الضحايا، لا يزال وهم الانتصار حاضرًا، في تجاهل لحقيقة أن الانتصارات كلّها تظلّ وهمًا حين تكون الحرب أهلية
أكاد أغامر وأجزم بأنّ كلًّا منّا قد وجد نفسه ولو مرة فريسة "سعار الدوائر" هذا في مناسبة ما، سواء بشكل منفرد، أو في فصل من فصول "سعار الدوائر الجماعي" كما يحدث في الأيام الأخيرة عقب الكشف عن فيديو مجزرة التضامن. لا بأس في تأكيد المؤكد هنا: المجزرة واضحة، ومثبتة بدليل غير مسبوق.. (مدانة؟ تبدو لي هذه كلمة شديدة التفاهة في هذا المقام). لا بأس أيضًا في التذكير بأنها مجرّد واحدة من عشرات - على الأقل - في مختلف مناطق السيطرة، وعلى يد مختلف الأطراف، وما خفي قد يكون أعظم بكثير. المحاسبة مطلوبة؟ هذا "أضعف الإيمان" بكلّ تأكيد. الإدانة، والمطالبة بالمحاسبة، كانتا في خلال الأيام القليلة الماضية عنوانين حاضرين على ألسن كثير من السوريين والسوريات، من مختلف الاتجاهات والتوجهات. حالة لم تتكرر إلا نادرًا في السنوات العشر الماضية، حالة كادت تكون "جامعةً" لولا (ولُعنت لولا على حد تعبير مظفر النواب)، لولا "سُعار الدوائر الجماعي" الذي سرعان ما أفلح في تحويل الحالة إلى مناسبة جديدة للتخندق، والاصطفاف: تعميم طائفي هنا، تبريرٌ بائس هناك، تسفيهٌ هنا وهناك... إلى آخر القائمة التي تطول ونبرعُ فيها منذ سنوات وسنوات. في حالة مثل حالتنا السورية، سيكون مفهومًا بكل تأكيد وجود آراء متضاربة حول المسؤولية عن المجزرة: لمن ينبغي تحميلها؟ وهل تقتصر على المنفّذ/ين؟ أم تنسحب على درجة أعلى في السلّم، ثم أعلى، فأعلى؟ وحول المحاسبة، ومن المخوّل بالتصدي لها، والكثير الكثير من التفاصيل. غير أنّ هذا كلّه في الواقع ليس بحثًا عن العنب (لم يبق في سلتنا عنب ولا حصرم أصلًا)، ولا حتى استثمار "فرصة" لمقاتلة الناطور، هذا - من حيث ندري أو لا ندري - شحذ جديد لأسلحة قديمة، يصوبها بعضنا في وجه بعضنا الآخر، فيما لم يبقَ في "البستان" حجرٌ على حجر، والأنكى أن كلّ ما سبق لا يضمن أن مُحاسبةً ستحصل بالضرورة. لعلّي أغامر بالجزم أن ما يسوق كثيرًا منّا هنا هو "وهم الانتصار" الذي ما انفكّ يروّج له منذ العام 2011 حتى اليوم بصيغ مختلفة، سواء كانت "إذا رمضن ما بيعيّد" (في إشارة إلى إسقاط موعود للنظام)، أو "خلصت وفشلت" (في إشارة معاكسة) أو غير ذلك. اليوم، بعد كل هذه السنوات، وعشرات آلاف الضحايا والمفقودين، لا يزال وهم الانتصار حاضرًا، وينشط تسويقه عند مفترقات كثيرة، وعلى مختلف الاتجاهات، في تجاهل لحقيقة أن كل الانتصارات تظلّ وهمًا حين تكون الحرب أهلية. وما نعيشه هو في أحد وجوهه الكثيرة المتداخلة المعقّدة حرب أهليّة لا تزال دائرة حتى الآن ولو دخلت معاركها في حالة "ستاتيكو". حسنًا، ماذا تركنا للمجزرة التالية حين يُكشف عنها؟ سيحصل هذا على الأرجح، سنكتشفُ مجزرة غدًا، وأخرى بعده، وثالثة، وعاشرة... (ومن دون أن يشكل فارقًا كبيرًا كون تلك المجزرة معلومةً سابقًا وظهرت توثيقات لها، أو مجهولة وكُشف عنها). لا تخلّف الحروب الأهلية بساتين ووردًا، ولا تتكشف عن كنوز، بل عن مجازر ومقابر جماعية، هذا أمر واقع بكل أسف. لقد انتهت الحرب الأهلية الإسبانية – نظريًّا – في العام 1939، وامتدّت مفاعيلها حتى وفاة الجنرال فرانشيسكو فرانكو في العام 1975، وأقرّ بعدها بثلاثة أعوام "ميثاق الصمت والنسيان"، لكن المقابر الجماعية عادت إلى الواجهة بعد عقود، ولم يطوَ هذا الملف بشكل نهائي حتى اليوم، والسبب ببساطة أن هناك أشياء لا تُنسى، قد يحصل تواطؤ على تناسيها، لكن حصول هذا التواطؤ مشروطٌ بالتوافق، والتوافق كي يكون حقيقيًا مشروطٌ بجبر الضرر، بجبر ما أمكن منه، وردّ الكرامات، وقبل كل شيء بتوقف القتل بمختلف أشكاله، ماديًّا كان أم معنويًا. ماذا لو لم يحصل ذلك؟ أستعير جوابًا بسيطًا من تزفيتان تودوروف: "إننا نجدُ دومًا ومن دون أي صعوبة عنفًا سابقًا يمكن أن يبرر عنفنا الحالي، لكن بهذه الطريقة لن تتوقف الحرب أبدًا".
درعا 2011 – السويداء 2023: الدروس (غير) المستفادة!

سيقال الكثير حول الرايات والغايات وتصدّر مشايخ العقل "حراك السويداء". لكنّ المؤكد أن نزع ذلك كلّه من..

صهيب عنجريني
"بناء الشخصيّة" بين دراما الزبدة ودراما الزّبَد

بعض الشخصيات قد تُنهي العمل الدرامي على الصورة ذاتها التي بدأ بها، ولكنها، مع ذلك، يُفترض أن تقدّم لنا..

صهيب عنجريني
ابتسمي أيتها الدراما

ثمة مسلسلات يَفترض فيها الكاتب الذروة التي يريد من الأحداث أن تصلها، ثم يبدأ في قيادة سلوكيات الشخصيات..

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة