هل ثمة أخطار تُحْدِقُ بالاقتصاد العالمي؟

ما الذي يقوله وزير المال اليوناني الأسبق يانيس فاروفاكيس عن تبعات الحرب الأوكرانية وقبلها جائحة "كورونا" على الاقتصاد العالمي؟ وأين تتحمّل الدول الكبرى، برأيه، مسؤولية أزمة اقتصاديّة عالميّة بدأت ملامحها تلوح في الأفق؟

مقابلة مع يانيس فاروفاكيس

رابط المقابلة المصوّرة: Looming Threats in the Global Economy  ترجمة: مهيار ديب برنامج "الأجندة" الذي يقدمه ستيف بايكين على قناة  TVO، يهدف إلى استكشاف قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية. سبق أن استضاف البرنامجُ الخبيرَ الاقتصادي يانيس فاروفاكيس قبل عقد من الزمان، حين كان العالم لا يزال يعاني من الانهيار الاقتصادي الذي بدأ عام 2008، وأودى باقتصاد موطنه الأصلي، اليونان.

في السنوات التي تلت ذلك، أصبح فاروفاكيس وزير المال اليوناني وخاض مفاوضات شرسة مع قادة الاتحاد الأوروبي حول إعادة جدولة ديون بلاده، قبل أن يستقيل وينشئ حزبه السياسي الخاص.

فاروفاكيس هو محور فيلم وثائقي جديد من ستة أجزاء، عنوانه "في عين العاصفة: الأوديسة السياسية ليانيس فاروفاكيس". وقد انضم إلى برنامج "الأجندة" من أثينا، اليونان، لمناقشة عدم الاستقرار المالي في العالم اليوم، بعد جائحة "كوفيد - 19" والحرب في أوكرانيا. فيما يلي مقاطع من المقابلة التي أُجريت معه:


ستيف: هل تؤمن بأنّ العقوبات التي فرضتها دول غربيّة عدة على روسيا تفعل فعلها؟

يانيس: نعم ولا. هي تفعل فعلها بمعنى أنّها تلحق أضرارًا رهيبة بالاقتصاد الروسي. الشعب الروسي يعاني. وسوف يظلّ يعاني من هذه العقوبات بشكل متزايد. ربّما هناك خسارة في الدخل الوطني الروسي تصل حتّى 20 في المئة، وهي تؤثّر بشكل متفاوت على كثيرين. ولكن، هل أرى أنَّ العقوبات تفعل فعلها في ما يتعلّق بقدرة السيد بوتين على مواصلة الحرب؟ قطعًا لا.

سبق أن رأينا أنّ ميزان المدفوعات الروسي ذا فائضٍ ضخم يقدّر بـ250 مليار دولار. وهذا ليس بلَغز، فعندما تُوقف الاستيراد بسبب العقوبات في حين تُواصل تصدير الغاز والنّفط، بما في ذلك إلى الاتّحاد الأوروبّي، إذ نرسل 700 مليار دولار يوميًّا إلى السّيد بوتين، فسوف ينجم عن ذلك فائض ضخم. وهذا الفائض يسمح للسّيد بوتين بإدارة حكومته من دون أي عقباتٍ ماليّة، وفقًا لمنطق المحاسبات.

بالإضافة إلى ذلك، فلنواجه الأمر، بوتين ديكتاتور. وهو لا يعير اهتمامًا لشعبه. ولذلك، لا، العقوبات لا تفعل فعلها، إن كنت تعني بـ"فعلها" إعاقة قدرته على مواصلة الحرب أو تصميمه على ذلك.

ستيف: في هذه الحالة، هل تعتقد أنّ علينا تشديد الضّغط أكثر؟

يانيس: لا أعتقد أنّ بإمكاننا ذلك، لأنّي أعتقد أنّ الرئيس بايدن وصل إلى حدّ استخدام الخيار النّوويّ. فالخيار النّوويّ، عندما يتعلّق الأمر بالعقوبات، يعني إخراج بنك روسيا المركزيّ من نظام الدفع العالمي المُدَوْلَر.

نعم، بإمكان أوروبا أن تتوقّف عن شراء الغاز الطبيعي، خصوصًا شراء ألمانيا له من خط الأنابيب المسمّى "نوردهاوزن ون". وهذا كما تعلم من شأنه أن يحدّ من تدفّق الدولارات إلى خزائن روسيا العامّة. لكنه، أي بوتين، سيجد طريقةً لإيصال هذه الطّاقة إلى دولٍ أخرى، كالهند، والصين. لذلك لا أعتقد أن عقوباتٍ إضافيّةً ستخفض معدّل الوفيات، أو حتّى الجرائم ضدّ الإنسانيّة التي ترتكبها روسيا.

أعتقد أنّه من السّديد أخلاقيًا تمامًا أن نحاول إيجاد سبل لوقف إطلاق النار مباشرةً وانسحاب القوّات الروسيّة، الأمر الذي أخشى أنّه سيتضمّن نوعًا من التفاوض مع السّيد بوتين لا يرغب فيه أحد لكنَّ على الجميع في الوقت نفسه إيجاد سبيل لإقامته.

ستيف: لا يمكنك تحقيق السّلام مع أصدقائك. عليك تحقيقه مع أعدائك، وهذا غالبًا ما يعني الخوض في محادثات غير سارّة، لكن بوتين لم يُبدِ، إلى الآن، أي اهتمامٍ بأن يخوضَ مفاوضاتٍ مثل التي وصفتَها لتوّك. فما العمل؟

يانيس: حسنٌ، هناك مفاوضات جارية بين أوكرانيا وروسيا. لكنّها لا تسفر عن أيّ نتيجة. وأنا أعتقد، ولطالما اعتقدت، منذ اليوم الأوّل، منذ الرابع والعشرين من شباط/ فبراير، أنّ مفاوضاتٍ من هذا القبيل لن تقودنا أبدًا إلى أي نتيجة. ذلك لأنّه لا يمكن إبرام اتّفاق فعّالٍ ومُلزمٍ بين شخصٍ كالرئيس زيلينسكي، رئيس الدّولة التي تعرّضت للغزو والذي هو تاليًا الطرف الأضعف في هذا التفاوض، وأوتوقراطيّ كبوتين في الطرف المقابل.

التّفاوض الذي يجب أن يقوم هو بين جو بايدن وفلاديمير بوتين. فمن الملحّ إعطاء بوتين مخرجًا، ليس لأنّنا نريد إعطاءه مخرجًا. أنا أتمنّى رؤيته يتلقّى قصاصه العادل. إلّا أنّنا إن أردنا إنهاء هذا النّزاع الآن، فلا بدّ من تفاوضٍ بين واشنطن وموسكو. وهذا لم يحدث. وكلّما سمعت جو بايدن وهو يتحدّث عن الإبادة الجماعيّة أو عن جرّ بوتين إلى محكمة جنائيّة، ما أراه هو إشارةٌ من واشنطن بأنّه لن يجري أيّ تفاوضٍ.

لا أعتقد أنّ لدى واشنطن الحقّ الأخلاقيّ بأن تضحّي بالأوكرانيين على مذبح دافع أخلاقي ما لرؤية بوتين يسقط، فبوتين لن يسقط. كما أنّه لن يُجبر على السقوط في أقلّ من خمس، أو ست، أو سبع، أو ثمان سنوات جرّاء مجموعةٍ من العقوبات أو ما هو أشبه بحرب استنزاف. ولا أعتقد أنّ لدينا الحقّ بابتلاء الأوكرانيين بخمس أو ست سنوات أخرى من هذا. ليس لدينا الحق بتحويل أوكرانيا إلى أفغانستان على أطراف الاتّحاد الأوروبي، لأنّه حتى لو قال لي بعضهم: "ولكن انظر، المجاهدون في أفغانستان هزموا السوفييت في نهاية المطاف"، نعم، ولكن انظروا إلى أفغانستان. أفغانستان حفرة أقذار. وفي النهاية، هي منطقة مدمّرة لا يمكن حكمها. ولا نريد ذلك لأوكرانيا.

ستيف: حسنٌ، دعني أسألك عن عالم ما بعد الحرب الباردة، فأنا أظن أنّ الحكمة التي سادت، منذ ما يزيد عن 30 سنة، أننا إذا ما أقمنا تكاملًا اقتصاديّا بين الغرب وروسيا، فمن شأن ذلك، بالتأكيد، أن يحفظ السلام، لأنّ ما من أحد، في نهاية الأمر، يريد غزو بلدٍ يمارس معه التجارة. من الواضح أنَّ هذه النظرية انهارت. هل تظنّ، في إدراك لاحق، أنّه كان من الخطأ الاعتماد إلى هذا الحدّ على الوقود الأحفوري الروسي؟

يانيس: لا أعتقد، يا ستيف، أنّ النظرية انهارت. إن كان ولا بدّ، ومع أخذ الإدراك اللاحق بالحسبان، فإنَّ على الغرب أن ينتقد ذاته وأن يعي أنّه لم يعطي تلك النظرية أي فرصة. دعني أذكّرك بأنّه بعد عام 1991، كانت روسيا جاثيةً على ركبتيها. كان هناك يلتسن. وكان هناك، في رئاسة وزراء روسيا وفي حكومتها، إصلاحيّون ليبراليّون. وقد سُحقوا. سُحقوا لأنّ صندوق النّقد الدولي وواشنطن أصرّا على تنفيذ سياسة اقتطاع رطلٍ من لحم الاقتصاد الروسي كسدادٍ للدين، الأمر الذي لم يكن الاقتصاد الروسي مستعدًّا للقيام به، ببساطة.

دعني أذكّرك بأنّه بين عام 1995 وعام 1998، دفع الغرب روسيا إلى أزمة ماليّةٍ كبرى. وأجثى صندوق النقد الدولي روسيا على ركبتيها في عام 1998. دعني أذكّرك بأنّه بسبب هذه السياسة التي نفذّها صندوق النقد الدولي وواشنطن، انخفض معدّل العمر المتوقّع للرجال في روسيا من 78 إلى 56 سنة. وهذا ما لم يحدث قط في أي بلدٍ في العالم في غضون مثل هذه الفترة الوجيزة وكان له مثل هذا التأثير المدمّر على اقتصادٍ أو مجتمع.

وفي رأيي المتواضع أنّ الوحش الذي يحمل اسم فلاديمير بوتين قد ترعرع في أحشاء ذلك الإذلال العملاق للشعب الروسي الذي حُرم من فرصة الانضمام إلى الاقتصاد العالمي. ولذلك، حان الوقت لأن تنظر واشنطن إلى نفسها بالمرآة عن كثب وتفهم أنّ ما أسفر عن قيام بوتين، والأوليغارشية، وما دفعَ إلى سياق كانت نتيجته صيرورة روسيا رأس المشكلة، ليس إخفاق الاقتصاد الروسي في الاندماج، بل خيار واشنطن وصندوق النّقد الدّولي على وجه الخصوص بالتعاون معها، في عدم إدماج روسيا.

مؤرّخو الاقتصاد في المستقبل سوف يصفون الحرب في أوكرانيا بأنها 1929 جيلنا

ستيف: هل من العدل أن نقول أيضًا إنّه نظرًا إلى اعتماد بلدانٍ كألمانيا بشدة على النفط والغاز الروسيين كي تبقي أنوارها مضاءةً، فإنَّ الغرب يموّل، بطريقة ملتوية، جزءًا من هذه الحرب؟

يانيس: تمامًا. لكنّ الأمر هو تضافر القولين: ما أقوله وما تقوله. فمن جهة، أنت تسحق مجتمعًا كروسيا، شعبًا فخورًا كالروس، تسحقهم. الغرب سحقهم. تذكّر، حتّى بوتين، عندما صار رئيسًا لأول مرّة، اقترح انضمام روسيا إلى "الناتو" ورُفض اقتراحه، وسُحقَ اقتصادُه.

هكذا، كان ثمة مزيج من إذلالهم، إذلال قوّة نووية، وهذا ليس بالتصرّف الفطن، والاعتماد عليهم، في الوقت ذاته، كما قلتَ بحقّ، لتأمين الغاز والنّفط، وهذه سياسةٌ فاشلة تمامًا. سياسةٌ يجب إخضاع رؤوس من صنعوها للفحص جميعًا. وكما قلتُ سابقًا، إنّ فائض ميزان مدفوعات الجمهورية الرّوسيّة ارتفع حتى 250 مليار دولار. والعملة، أو الأحرى قيمة العملة، تعكس ما إذا كان ميزان مدفوعات بلد ما ذا فائضٍ أو ذا عجزٍ، كما تعكس مدى ذلك الفائض أو العجز.

فمن خلال تقليل الواردات جرّاء العقوبات المفروضة، والزيادة الهائلة في أرباح الدّولة الروسيّة من الغاز والنّفط؛ حتّى ولو كانوا يبيعون كمياتٍ أقلّ، رفعت الأزمة في سوق الطاقة أسعار النفط والغاز إلى الحدّ الذي رفع الأرباح بشكل هائل في الحقيقة، في الوقت الذي انخفض فيه الإنفاق على الواردات. هكذا تدعم أساسيات الاقتصاد الروبل. وهي مزيجٌ من الضوابط على رؤوس الأموال، وتضاؤل الواردات، والزيادة الكبيرة في قيمة الصادرات بالدولار.

ستيف: حسنٌ. لنركّز على أوكرانيا. يبدو أنّ الاقتصاد الأوكرانيّ سوف ينكمش بحوالي 40 في المئة مع نهاية العام الحالي. كما صرّح صندوق البنك الدّولي توّاً بأنّ الاقتصاد العالمي سيتدهور أيضًا بشكل ملحوظ بسبب هذه الحرب. لديك فهمٌ عميق للاقتصاد المنكمش من خلال الفترة التي شغلت فيها منصب وزير الماليّة في اليونان. ما النصيحة التي تسديها الآن إلى وزير الماليّة الأوكراني؟

يانيس: نحن بحاجةٍ إلى وقف الدّمار. انظر، إن أرقام إجمالي الناتج المحليّ لا تكون مهمّة على الإطلاق عندما يموت الناس. عندما ترى جسرًا مهدّمًا، المهمّ هو من كان فوق هذا الجسر، ومن مات، ومن شُوّه، ومن انهارت نفسيّته. الجسر بحدّ ذاته ليس مهمًا، لأنّه بمجرّد تحقيق السلام، سترفع إعادة بنائه أرقام أجمالي الناتج المحليّ بأسرع من تضاؤلها بسبب تدمير ذلك الجسر.

وبالمناسبة، لقد ذكرتَ صندوق النّقد الدولي. لديّ رسالةٌ إلى أصدقائي المقرّبين في واشنطن العاصمة من العاملين فيه: اقرنوا أقوالكم بالأفعال. إن كنتم قلقين حقًّا على أوكرانيا، توقّفوا عن انتزاع مليارات الدولارات، الآن ونحن نتكلّم، من مدفوعات فوائد دين أوكرانيا العام، دين أوكرانيا لصندوق النقد الدولي. على صندوق النقد الدولي أن يعيد هيكلة ديون أوكرانيا، عليه أن يقلل قيمتها، وأن يخفّضها بدلًا من الإلحاح على انتزاع أرطال من لحم دولة أوكرانيا بينما يكافح الشعب الأوكراني للبقاء على قيد الحياة.

لذلك، فلنضع حدًّا لهذا النفاق. فلنوقف الحرب، ونرى المجتمع الدولي، ولا سيما الاتحاد الأوروبي، يصبّ المليارات من اليورو والدولار والين والدولار الكندي، في إعادة بناء أوكرانيا.

ستيف: هل من الممكن على أي نحو من الأنحاء إحياء أي شكل من أشكال ثقة المستهلك أو معالجة التضخّم في حال استمرّت الحرب؟

يانيس: حسنٌ، الحرب تجعل الأمر السيئ أشدّ سوءًا. تذكّر أن عودة التضخّم كانت نتيجة انقطاع سلاسل الإمداد أثناء الوباء، مع نهاية الحظر الأول. وحين بدأنا نرى الضوء في نهاية النفق، نفق التضخّم، جاءت الحرب الأوكرانية وشحنت مشكلةً موجودةً أصلًا. وقبل ذلك، دعني أذكرك، كنّا قد واجهنا، منذ عام 2008، أزمة ما أسمّيه الانكماش الكبير، وهي سيرورة انكماشيّة كبيرة كانت تجري خلالها أسواق المال والبورصات بشكل خيالي بسبب طباعة البنوك المركزيّة كلّ تلك الأموال، لكنّ التقشّف كان مفروضًا على جميع الشعوب تقريبًا في جميع أنحاء الغرب وأميركا الشمالية والاتحاد الأوروبي، وسواها.

ولذلك، أدّى هذا الجمع بين اشتراكية المصرفيين وقطاع المال، من جهة، وتقشّف كل من تبقّى، من جهة أخرى، إلى حصر الاستثمار في الأعمال عالية الجودة، وفي التحوّل الأخضر، وفي مجال الطاقة الخضراء، وعاد في الوقت نفسه بثروات خرافية على بيروقراطيي "وول ستريت" وأماكن أخرى.

كان هذا هو الوضع قبل أن يضربنا التضخم. ثم ضربنا التضخم مع الوباء. واستفحل الوضع بسبب الحرب الأوكرانيّة، والآن يقبع نظام الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الكندي والبنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الإنجليزي وغيرها في حالة يأس، لأنّها على مدار الـ 13 عامًا الماضية، أبقت عالم الشركات في حالة إدمان على التمويل الرخيص.

هكذا بات عالم الشركات بأكمله شمال الأطلسي معتمدًا تمامًا على مطابع بنوكنا المركزية، والآن، ليس لدى هذه المطابع أي إجابة مطلقًا عن السؤال، "كيف يمكن الحفاظ على شكلٍ من أشكال السَّواء في قطّاع الشركات والحدّ من التضخّم في الوقت ذاته؟" والحرب في أوكرانيا تمنع قيام ولو مناقشة معقولة لكيفية حدوث ذلك.

لذلك يجب أن تنتهي الحرب في أوكرانيا اليوم. يجب أن تنتهي لأنَّ الأوكرانيين يموتون ولأن مزيدًا من الحرب ليس حلًّا للحرب، ويجب أن تنتهي لأنَّ الفقراء في جميع أنحاء العالم، وليس فقط، بالطبع، في أوروبا وأميركا الشمالية، بل في جميع أنحاء العالم، يعانون من تضخم أسعار المواد الغذائية، في أفريقيا وآسيا والهند، ما يؤدّي إلى زهق أرواح ملايين لا تعد ولا تحصى من البشر. وهذا ما يضع على عاتقنا واجبًا أخلاقيًا في أن نضع حدًّا لهذه الحرب.

تقترض الإنسانيّة في ظلّ الرأسمالية من المستقبل، على أمل أن تتمكّن من ردّ الدين للمستقبل

ستيف: نحن نفهم الجانب غير السارّ المتعلّق بالدَّين، ولكن ما هو جانبه الجوهري؟

يانيس: كان ثمة إنتاج قبل الرأسماليّة. كان الفلّاحون، كما تعلم، يعملون في الأرض، وكانوا ينتجون. ثم يأتي الحصاد، فيرسل الإقطاعيّ عامله ليأخذ حصّته. وبعد ذلك يبيع الإقطاعيّ تلك الحصّة في أسواق مفتوحة قرب القرى وهكذا، الأمر الذي من شأنه أن يخلق الأَمْوَلَة التي تأتي للإقطاعيّ ببعض المال. ثم يقرض الإقطاعيّ هذا المال إلى آخرين. وبذلك يأتي الدَّين عند نهاية خطّ الإنتاج والتوزيع تمامًا.

أمّا مع الرأسمالية، فلديك أصحاب مشاريع يقترضون مقدّمًا، قبل أن يبدأ الإنتاج، وذلك لاكتراء أرض، واكتراء آلات، ودفع أجور العمّال، قبل حصول أي إنتاج. كان الترتيب مقلوبًا، إذًا. إذ أتى الدَّين أوّلًا. ثمّ أتى التوزيع. تلك حصّة العمّال، وتلك حصّة البنوك، وتلك حصّة ملّاك الأرض، ومن ثمّ يأتي الإنتاج أخيرًا.

ذلك القلب للترتيب، بحيث يغذّي الدَّينُ الإنتاجَ، أطلق العنان لقوىً هائلة في الاقتصاد العالمي وصاغَ العالم الحديث، لكنَّ ما فعله، في الوقت نفسه، كونه أمرًا جيّدًا، بل جيدًا جدًا، هو أنّه سمح لمن تحكّموا به، للمصرفيين، بتعبير آخر، بأن يغتنوا ذلك الغنى الخرافي وبأن يصبحوا أغنى أكثر فأكثر.

بمعنىً ما، تقترض الإنسانيّة في ظلّ الرأسمالية من المستقبل، على أمل أن تتمكّن من ردّ الدين للمستقبل. وعند حدّ معين، حين يصبح الأمر مربحًا جدًّا، نواصل الاقتراض المفرط من المستقبل، ثم لا يقدر الحاضر على سداد دين المستقبل. عندها نجد أنفسنا إزاء انهيار كالذي حصل في عام 2008، ذلك الحدث الكبير في تاريخ البشرية، والشبيه بما حصل في عام 1929. واعتقادي أنّنا ما زلنا في الأزمة ذاتها.

فالأزمة التي تحدّثنا عنها أنا وأنت في 2010، و2011 لم تَزُل مطلقًا. والحرب في أوكرانيا تصعّد أحد مظاهر تلك الأزمة التي بدأت في 2008، وأنا موقنٌ أنَّ مؤرّخي الاقتصاد في المستقبل سوف يصفونها بأنها 1929 جيلنا. دعني أذكّر مشاهدينا بأنّ سنة 2008 كانت كارثةً لم تسبّبها الحكومة الفدرالية في الولايات المتّحدة، ولا الحكومة الفدرالية في كندا، ولا حكومات الاتّحاد الأوروبّي، بل سبّبتها البنوك. فقد انغمست البنوك في فورة إقراضٍ، واقتراضٍ، ومقامرة. كان الدَّين الخاص، تاليًا، هو الذي انفجر في 2008، مدمّرًا حيواتٍ كثيرة، وواضعًا إيانا في أزمة لا تنتهي.

وبالطبع، فإنّ أزمة دين خاص يمكن بسهولة أن تتحوّل الآن إلى أزمة دين عام، لأنّه عندما تضطر الدولة إلى إفراغ المصارف، كما حصل على سبيل المثال في إيرلندا وإسبانيا والولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة، فإنك تجد نفسك، فجأةً، في مشكلة دين عام. لكنّ الدين العام هو مجرّد تحوير للدين الخاص. ولذلك علينا النظر إلى الدين ككلّ، خاصّه وعامّه، وأن نسأل أنفسنا: هل هذا ممّا يُطاق؟ أي هل يذهب هذا الدين، أو جزء كبير منه، إلى استثمارٍ في الأشياء التي تحتاجها البشرية؟

من المؤسف أنَّ الجواب، منذ عام 2008، هو "لا" كبيرة واضحة وضوح الشمس. انظر كيف بددنا تريليونات وتريليونات من الدولارات الأميركية، من المال المطبوع، المال الذي لم يذهب باتّجاه الطاقة الخضراء التي نحتاجها والتي كانت لتفكّ ارتباطنا بغاز بروم فلاديمير بوتين، كمثال فحسب، أو كانت لتفكّ ارتباطنا بالطاقة شديدة القذارة التي تنتجها كندا والولايات المتّحدة عبر التصديع الهيدروليكي وما إلى ذلك.

كنّا لنملك كلّ ما نحتاجه من طاقة خضراء، لو استثمرنا خلال السنوات الثلاث عشرة أو الأربع عشرة الأخيرة جزءًا ضئيلًا فحسب حتى من المبلغ الذي اقتُرضَ من البنوك المركزيّة أو طُبع فيها. هذه هي القضيّة. هل يتحوّل الدَّين إلى استثماراتٍ وأشياء نحتاجها، ليس إلى أشياء لا نحتاجها، بل إلى أشياءٍ نحتاجها؟

3 أسئلة لبيار ستمبول، الناطق باسم "الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام"

"معظم الجمعيات اليهودية في فرنسا تدعم جرائم إسرائيل وتعتبرنا خونة". ما الذي يقوله بيار ستمبول، الناطق..

أوان
هل كان يسوع ثائرًا؟

إنْ كان من دُعيا باللّصين ثائرين، فهل كان يسوع ثائرًا أيضًا؟ لعلّ كتّاب الأناجيل أسقطوا بعضًا من المادة..

أوان
سوريا وتقنين العيش

من دمشق إلى حلب مرورًا بالعاصي فالجزيرة والساحل، توحّدُ السوريين معيشةٌ تُظللها عتمة الأيام، وتتعطل..

أوان

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة