سلافوي جيجيك
نص المقالة الأصلية: [1] What the “Woke” left and the Alt-Right Share
ترجمة: مهيار ديب
وقع مؤخرًا جوردان بيترسون، السيكولوجيّ الكندي والممثّل الثابت لليمين البديل في الإعلام، على فكرة مهمّة. وفي حلقة بودكاست بعنوان “روسيا ضد أوكرانيا أم حربٌ أهليّةٌ في الغرب؟“، تَبيَّنَ صِلةً بين الحرب في أوروبا والنّزاع بين التيار الليبرالي السائد واليمين الشعبوي الجديد في أميركا الشمالية وأوروبا.
برّغم أن بيترسون يدين بدايةً حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العدوانيّة، إلّا أنّ موقفه يتحوّل بالتدريج إلى نوع من الدفاع الميتافيزيقي عن روسيا. إذ يقترح، بالرجوع إلى مذكّرات دوستويفسكي، أنّ الفردانية الأوروبية المُتعيّة أقلّ شأنًا بكثير من الروحيّة الروسية الجمعيّة، قبل أن يؤيّد، بالنتيجة، وصفَ الكرملين الحضارةَ الغربية الليبرالية المعاصرة بأنّها “منحطة”. وهو يصف ما بعد الحداثة بأنها تحوّل للماركسية يسعى إلى تقويض أسس الحضارة المسيحية. وفي هذا الضوء، فإنّ الحرب في أوكرانيا تبدو له صراعًا بين القيم المسيحية التقليدية وشكلٍ جديدٍ من الانحطاط الشيوعي.
هذه اللغة مألوفةٌ لكلّ من هو على أُلفةٍ بنظام رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، أو بعصيان السادس من كانون الثاني في عام 2021 في مبنى الكابيتول الأميركي. وكما يقول جون بليك، العامل في “سي إن إن”، فإنّ ذلك اليوم “وسم المرّة الأولى التي أدرك فيها كثير من الأميركيين أنّ الولايات المتحدة تواجه حركةً قومية مسيحية بيضاء في بداية تفتّحها… تستخدم لغةً مسيحيّةً لإخفاء التمييز الجنسي والعداء تجاه السود والمهاجرين غير البيض في سعيها لإقامة أميركا مسيحية بيضاء”. ولقد بلغ من أمر هذه النظرة إلى العالم، أنّها “اخترقت التيار الديني السائد بالكامل إلى الحد الذي يكاد يعرّض أي راعٍ أبرشيّ مسيحي محافظ، يحاول أن يتحدّى إيديولوجيّتها، للمخاطرة في حياته المهنية”.
يشير اتخاذ بيترسون موقفًا مواليًا لروسيا، ومناهضًا للشيوعية، إلى اتجاه رائج واسع. ففي الولايات المتحدة، رفض عديدٌ من المشرّعين في “الحزب الجمهوري” دعمَ أوكرانيا. ورأى ج. د. فانس، المرشح “الجمهوري” إلى مجلس الشيوخ من أوهايو بدعمٍ من دونالد ترامب أنّه “من المهين والغبي استراتيجيًا أن نكرّس لأوكرانيا الملياراتِ من الموارد في الوقت الذي نتجاهل المشكلات في بلادنا”. وتعهّد مات غايتز، عضو “جمهوري” في مجلس النواب من فلوريدا، بإيقاف دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا إذا ما ظفر حزبه بصلاحيات المجلس في تشرين الثاني/نوفمبر.
لدى أوروبا فرصة فريدة للتخلّي عن حياة الرفاهية المعزولة الساحرة، تلك الفقاعة التي كانت فيها أسعار الغاز والكهرباء أكبر الكروب
كن، هل يعني قبول مقدّمة بيترسون التي مفادها أنّ حرب روسيا واليمين البديل في الولايات المتحدة هما فصيلان في الحركة العالمية الواحدة ذاتها، أنّه ينبغي على اليساريين أن يقفوا في الطرف المقابل؟ هنا، يصبح الوضع أكثر تعقيدًا. فبرغم أنّ بيترسون يزعم مناهضة الشيوعية، إلّا أنّه يهاجم عاقبةً كبرى من عواقب الرأسمالية العالمية. لقد سبق لماركس وإنجلز أن كتبا منذ أكثر من 150 عامًا في الفصل الأوّل من البيان الشيوعي:
“أنّى كان للطبقة البرجوازية اليد الطّولى، وضعتْ حدًّا لجميع العلاقاتِ الإقطاعية، والأبوية، والشاعريّة الرعوية…العلاقاتُ الثابتة الجامدة تُجرف برمّتها، ومعها مواكبُ آرائِها وتحيّزاتِها العتيقةِ الوقورة؛ ولا تلبث جميع العلاقاتُ التي تحلّ محلّها أن تهرمَ قاطبةً قبل أن يشتدّ عودها. كلّ ما هو صلبٌ يتحوّل إلى أثير، وكلّ ما هو مقدّسٌ يُدنّس، ويُضطر الإنسان أخيرًا لأن يواجه ظروف حياته الواقعية، وعلاقاته مع بني جنسه بحواسّ صاحية”.
لطالما تجاهل هذه الملاحظة المنظرون الثقافيون اليساريون الذين ما زالوا يصبّون نقدهم على الإيديولوجيا والممارسة البطريركيتين. ولكنّه لا ريب في أنّ نقد البطريركية بلغ نموذجه الأمثل في اللحظة التاريخية التي خسرت فيها البطريركية دورها المهيمن على وجه التحديد؛ أي حينَ كَنَسَتْها فردانيّة السوق بعيدًا. وفي النهاية، ما الذي يحل بقيم العائلة البطريركية حين يسع طفلةً أن تقاضي أهلها بتهمة الإهمال والإذلال (ما ينطوي على كون الأبوّة مجرد عقدٍ آخر مؤقت وقابل للنقض بين أفرادٍ غاية كلّ منهم تعظيم منفعته)؟
لا شكَّ أن مثل هؤلاء “اليساريين” خرفان في إهاب الذئاب، يوهمون أنفسه بأنّهم ثوريون راديكاليون وهُمْ يدافعون عن المؤسسة الحاكمة. ولقد بلغ، اليوم، ذوبان العلاقات والأشكال الاجتماعية ما قبل الحديثة وتحوّلها إلى أثير، أبعد بكثير ممّا كان يمكن لماركس أن يتخيّل. وتغدو أوجه الهويّة البشرية برمّتها الآن مسألةَ اختيار، وتصبحُ الطبيعة موضوعَ تلاعب تكنولوجي أكثر فأكثر.
هكذا تغدو “الحرب الأهليّة” التي يراها بيترسون في الغرب المتطوّر سرابًا، صراعًا بين طبعتين من النظام الرأسمالي العالمي الواحد ذاته: فردانيّة ليبرالية منفلتة في مواجهة نزعة محافظة فاشية جديدة، تسعى إلى توحيد الديناميّة الرأسمالية والقيم وضروب التراتب الهرمي التقليدية.
ثمّة مفارقةٌ مزدوجة هنا. إذ أزاحت الصوابية السياسية (“اليقظة”) الصراعَ الطبقيَّ، وأسفرت عن نخبة ليبراليّة تزعم أنّها تحمي الأقليّات العرقيّة والجنسية كي تصرف الانتباه عن نفوذ أعضائها الاقتصادي والسياسي. وتتيح هذه الكذبة لشعبويي اليمين البديل، في الوقت ذاته، أن يقدّموا أنفسهم كمدافعين عن الشعب “الحقيقي” إزاء نخب الشركات و”الدولة العميقة”، حتى ولو كان هؤلاء الشعبويون، بدورهم، يحتلّون مناصب قيادية رفيعة في السلطة الاقتصادية والسياسية.
في النهاية، يتصارع الطرفان على غنائم نظام هما متورطَين فيه حتى النخاع. ولا يقف أيٌّ منهما إلى جانب المُستَغَلين وليس لأيّ منهما أيَّ مصلحةٍ في تضامن الطبقة العاملة. وفحوى ذلك ليس أنّ “اليسار” و”اليمين” مفهومين باليَين – كما بتنا نسمع كثيرًا – بل أنّ حروب الثقافة أزاحت الصراع الطبقي باعتباره محرّكًا للسياسة.
ما الذي يفعله ذلك بأوروبا؟ هذا ما يرسم له سيمون تيسدال في الغارديان صورةً قاتمةً، لكنّها دقيقة:
“غاية بوتين هي إفقار أوروبا. والزعيم الروسي، بجعله الطاقةَ والطعامَ واللاجئينَ والمعلوماتِ أسلحةً، إنّما يشيع الألمَ الاقتصاديّ والسياسيّ، ملقيًا بالجميع في ظروف زمن الحرب. شتاءٌ أوروبي طويلٌ، باردٌ، زاخرٌ بالنوائب من نقص إمدادات الطاقة وبوادر محنة… متقاعدون متجمّدون، أطفالٌ جوعى، رفوف خاوية في المخازن، زيادةٌ في تكاليف المعيشة لا يمكن تحمّلها، أجور بخسة، إضراباتٌ وتظاهراتٌ في الشارع تشير إلى تداعياتٍ على غرار سريلانكا. هل نبالغ؟ لا في الحقيقة”.
على أجهزة الدولة، إذا ما أردنا الحيلولة دون الانحدار التام نحو الفوضى، أن تعمل، بالتنسيق الوثيق مع الدول الأخرى والاعتماد على تعبئة الشعب محليًا، على تنظيم توزيع الطاقة والطعام، ربما بإدارة القوى المسلحة. وبذلك تكون لدى أوروبا فرصة فريدة للتخلّي عن حياة الرفاهية المعزولة الساحرة، تلك الفقاعة التي كانت فيها أسعار الغاز والكهرباء أكبر الكروب. وكما قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مؤخرًا لمجلة Vogue: “حاول فحسب أن تتخيّل حدوث ما أتكلّم عنه في منزلك، في بلدك. هل ستظلّ تفكّر بأسعار الغاز أو الكهرباء؟”
زيلينسكي على حقّ. أوروبا تتعرّض لهجوم، وهي تحتاج إلى التعبئة، لا العسكرية فحسب، بل الاجتماعية والاقتصادية أيضًا. علينا أن نستغلّ الأزمة لنغيّر طريقة حياتنا، فنتبنّى القيمَ التي تجنّبنا كارثةً بيئيّة في العقود القادمة. لعلّ هذه فرصتنا الوحيدة.
[1] تشير كلمة “Woke” التي أترجمها هنا بـ”اليقظ”، إلى التنبّه للتحيّز والتمييز العِرقِيَّيْن. ويعود أصل الكلمة إلى اللغة الأفريقية-الأميركية الدارجة. وفي بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، راحت تشتمل على وعيٍ أوسع بالمظالم الاجتماعية ومن بينها التمييز بحسب الجنس. كما استُعملت للإشارة إلى أفكار اليسار الأميركي المعني كثيرًا بسياسات الهوية. أما “alt right”، وأترجمها هنا ب “اليمين البديل”، فيشير إلى الحركة اليمينية البيضاء المتطرّفة. ويعود أصل الحركة إلى أوائل العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين في الولايات المتحدة، قبل أن تؤسس حضورًا في بلدانٍ أخرى.