البطالة ليست الأسوأ: ثلاث خفايا لا تكشفها الأرقام في سوريا‎

لا يكفي النظر إلى معدلات البطالة لنستشعر هول الكارثة التي تواجه قوّة العمل في سوريا اليوم، إذ إن البيانات الرسميّة لا تظهر كيفية توزّع هذا الدخل، ولا التفاوت بين دخول العمال أنفسهم.

يُعتبر معدّل البطالة مقياسًا لتقييم سوق العمل. وبرغم أن تخفيض معدّل البطالة يُعدّ من أهم مؤشرات الاقتصاد الكلي، إلا أنه غير كافٍ لقياس صحة الاقتصاد.

على مدار السنوات الإحدى عشرة المنصرمة، ارتفعت معدلات البطالة في سوريا إلى أرقام قياسية، بلغت بالمتوسط 35% بين عامي 2013 و2020. وقد شكّلت فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و34 عامًا 70% من العاطلين عن العمل، وشهدت سنة 2015 ذروة هذه البطالة، إذ وصل معدّلها حينذاك إلى 48.34%، أي نصف القوّة العاملة تقريبًا.

وبرغم ضخامة معدّل البطالة وما تعكسه من خلل في سوق العمل، إلا أن هذا الأمر ليس أسوأ ما يحدث في سوريا. إذ إنّ الصورة الحقيقيّة خلف هذه الأرقام أكثر مدعاة للقلق مما تشي به الأرقام نفسها.

أولًا: التوزيع الوظيفي للدخل

لا يكفي النظر إلى معدلات البطالة لنستشعر هول الكارثة التي تواجه قوّة العمل في سوريا اليوم. وبرغم أن بيانات الحسابات القومية تكشف أن الدخل القومي المتاح في سوريا بلغ نحو 19.6 تريليون ل. س. في العام 2020، إلا أن هذه البيانات لا تظهر كيفية توزّع هذا الدخل.

يتشكل دخل أي دولة من مجموع مداخيل سكان هذه الدولة خلال سنة معينة. ويُسمى تقسيم الدخل بين العمل ورأس المال “التوزيعَ الوظيفي للدخل”. وتعكس حصّة دخل العمل ما يحصل عليه العمال والموظفون كرواتب ومكافآت ومعاشات تقاعدية. أما دخل رأس المال، فهو الجزء المتبقي من الدخل القومي الذي يذهب إلى أصحاب رأس المال على شكل أرباح.

وتُظهر العلاقة بين هذين الجزئين كيفيّة توزّع الدخول بين من يملك رأس المال المادي (رجال الأعمال والتجار والأعمال الحرة) ومن لا يملك إلا قوة عمله، أي العامل، وكلما كانت النسبة بين الحصّتين قريبة من الواحد، يشير ذلك إلى قدر من العدالة في توزّع المداخيل.

التباين بين أرقام البطالة الرسمية وأرقام بالبطالة الحقيقيّة صارخ

تشير بيانات منظمة العمل الدولية (ILO) إلى أن حصّة العمال من الدخل في سوريا شهدت هبوطًا حادًا حتى بلغت 40% منه، بينما استحوذ رأس المال على ما تبقى من الدخل القومي، أي 60% منه. وإذا ما حاولنا تقديرها من خلال بيانات حسابات قوّة العمل الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء في سوريا، سيَظهر أن حصة العمال من الدخل لا تتعدّى 30% من الدخل القومي في مقابل 70% لأصحاب الأعمال (وفقًا لمتوسّطَي الأجور في القطاعين العام والخاص  عام 2020)، أي أن رأس المال يحصل على أكثر من ضعفي ما يحصل عليه أصحاب العمل ( 2.3 مرّة)، وتعدّ هذه النسبة خير دليل على عدم المساواة في التوزيع الوظيفي للدخل، وعلى الإجحاف الذي لحق بأجور العمال لمصلحة الأرباح خلال السنوات المنصرمة.

ولانخفاض حصة العمالة من الدخل القومي تأثير سلبي على مؤشرات الاقتصاد الكلّي الرئيسية، إذ إنّ كلّ انخفاض في حصة العمال من الدخل يعني انخفاضًا في الطلب الخاص (استهلاك الأسرة واستثمارات القطاع الخاص) وتدهورًا في صافي الصادرات وتدنيًا في نسب الاستهلاك الحكومي، أي تراجعًا في مكونات الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي انخفاضًا في معدلات النمو الاقتصادي.

ثانيًا: توزيع دخل العمل

لا يقتصر عدم المساواة على التوزيع الوظيفي للدخل، بل ثمّة تفاوت بين دخول العمال أنفسهم، وهو ما تعكسه بيانات الـ ILO ، حيث تُظهر أن 20% من العمال الأعلى دخلًا يتقاضون 61% من إجمالي الأجور في سوريا، في حين تكسب الـ 20% من العمال الأقل دخلًا 3.7% من إجمالي الأجور فقط. أما الطبقة الوسطى (التي تشكل 60% من العمال في الوسط)، فتتقاضى 37% من متوسّط توزيع الأجور. ولو استثنينا العاملين في القطاع العام، لكانت الفوارق أكبر بكثير مما نتخيّل.

وتَظهر المفارقةُ الأكبر لجهة عدم المساواة بين الأجور عند المقارنة بين الـ 10% الأعلى دخلًا من العمّال والـ 10% الأدنى دخلًا منهم، حيث يتقاضى الـ 10% الأعلى دخلًا 43.23% من إجمالي قيمة الأجور، بينما يتقاضى الـ 10% الأدنى دخلًا أقلّ من نصف في المئة من الأجور (0.49%). بمعنى آخر، يتعين على أفقر 10% منهم العمل أكثر من 87 عامًا لتحصيل الدخل الذي يكسبه أغنى 10% منهم في سنة واحدة.

ثالثًا: معدل البطالة الحقيقي

لا تعكس أرقام البطالة الرسمية معدّل البطالة الحقيقي بشكل دقيق. بل إنَ التباين بين أرقام البطالة الرسمية وأرقام بالبطالة الحقيقيّة صارخ.

يعتبر “العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” أن كلّ شخص لهُ حقُّ اختيار أو قبول ما يريد أن يعمل بحرّية. وينصّ العهد على دور الدولة في كفالة (أ) أجر منصف وعيش كريم للعمّال ولأسرهم، و(ب) ظروف عمل تكفل السلامة والصحة (المادة 7).

ونظرًا إلى أن ما يكسبه الكثير من العمال في سوريا غير كاف لسدّ رمق العيش، لا يمكن استثناء من يعمل منهم بأقل من أجر الفقر من معدلات البطالة الرسمية. وبسبب صعوبات الحياة اليومية، يضطر قسم كبير من العمال إلى مزاولة أنشطة غير متوافقة مع رغباتهم واختصاصاتهم، ولا تتوافر فيها شروط السلامة، والأهم من ذلك أن قسمًا كبيرًا من قوة العمل – نتيجة عوامل موضوعية مختلفة – اختارت طوعًا عدم البحث عن عمل، وهؤلاء لا يظهرون في معدلات البطالة الرسمية التي لا تحصي سوى الأشخاص الذين يبحثون بنشاط عن عمل.

يعني هذا أن معدل البطالة الرسمية لا يكشف حقيقة ظروف العمل وشروطه، إذ إنه لا يلحظ العمال الذين يتقاضون أجرًا لا يكفي لسدّ حاجاتهم الأولية، ولا يُحتسب الأفراد المحبطين الذين لا يبحثون عن عمل، ويُعتبر كل عامل هو من وجد وظيفة، حتى لو لم تكن منسجمة مع رغباته وخياراته.

من هنا، يمكن القول إن معدل البطالة الرسمي هو مجرد نسبة لا تعكس حقيقة سوق العمل. إذ إنه أقل بكثير مما ينطوي عليه المفهوم الجوهري للعمل الذي نص عليه العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي صادقت عليه سوريا في نيسان/أبريل 1969.

بناء على ما سبق، لم يعد مجديًا الاكتفاء بأرقام البطالة الرسمية، إذ إنّ ما تخفيه هذه الأرقام أسوأ بكثير مما يدركه صنّاع السياسة. ويمكن القول إن الوقت قد حان لتفحّص ما تخبرنا إياه معدلات البطالة الحقيقية وغياب العدالة في توزيع المداخيل والأجور، لكي نتمكن من تقديم قراءة تحليلية واقعية لسوق العمل في سوريا.

Image Credit: Giuseppe Simeon/Flickr

عودة اللاجئين السوريين من تركيا: قضايا مقلقة

قضيتان على درجة عالية من الخطورة أثارهما مجلس الأمن القومي التركي في اجتماعه الأخير: شروط العودة..

رشا سيروب
تكرُّر النزاع في سوريا: السياسات الحكومية مسؤولة

لا يعني استمرار الحكومة السورية بسياساتها الحالية سوى التسبّب بتهديد التماسك المجتمعي، أي، باختصار،..

رشا سيروب
المحرّك الخفي لكبح جماح التضخم في سوريا

غالبًا ما يتفاعل التضخّم المرتفع مع الحروب والصراعات. لكنّ هذا لا يعني أن السياسات الاقتصادية منه براء...

رشا سيروب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة