الصين: ملامح الارتداد عن القيادة الجماعية

هل استعجلت الصين في عهد تشي جينبينغ تحقيق أهدافها؟ وهل للقيادة الحالية نزعة فردية وتركيز على مكاسب قصيرة المدى، تضع ما يمكن للصين تحقيقه منتصف هذا القرن على المحكّ؟

جغرافيًا وديموغرافيًا واقتصاديًا، الصين أكبر من بلد وأصغر من قارة. إذ تمتد على مساحة 9.6 مليون كيلومتر مربع، ولها حدود برية وبحرية مع عشرين دولة، وبسواحل تمتد قرابة 15,000 كيلومتر، وتحتضن خُمس سكان البشرية، ويشكل ناتجها الاقتصادي المحلي قرابة خمس الناتج المحلي العالمي.

الصين طبعًا أشهر من أن تساق لها المقدمات، ولكنها تبقى غامضة في وجه محاولات الفهم والبحث، التي تتزايد بشكل متسارع مع تصاعد التوتر بينها وبين الولايات المتحدة، ومع كثرة الرهانات أو المخاوف على مسيرة صعود الصين. المؤتمر الوطني العشرون للحزب الشيوعي الصيني يمثل فرصة للبحث ومحاولة لاستقراء المستقبل، عبر مراجعة الماضي والحاضر.

وصل الحزب الشيوعي للحكم في الصين عام 1949 لينهي ما يعرف في الأدبيات الصينية بـ"قرن الإذلال" - بين 1839 و1949 – الذي خضع فيه حكام الصين لليابان والقوى الغربية. إنجازات الحزب الشيوعي في حكم الصين خلال العقود الأخيرة، قدّمت مؤشرات عدّة تدعم التوقّع بأن الصين ستصبح القوة الأولى من دون منازع بحلول 2049، أي مع استكمال قرن من الحكم الشيوعي لها. لكنّ عقود هذا القرن (1949-2049) شهدت تقلبات كثيرة، ولا يمكن اعتبارها بالضرورة مسيرة تطور متّسق، وإن كانت شهدت محاولات مهمة من الحزب الشيوعي للتمعن في الواقع وأسبابه.

فالعقود الثلاثة الأولى شهدت تقلبات حادة، واضطرابات سياسية واقتصادية واجتماعية. المرحلة الأهم  فيها تمثّلت بما يُعرف بـ"الثورة الثقافية" (1966-1976)، التي شهدت تصفيات ونزاعات دموية، بالتزامن مع تراجع التنمية الاقتصادية، وصولًا لدخول مناطق عدّة في الصين حالة مجاعة، ما أسفر عن سقوط ملايين الضحايا.

مرحلة ما بعد ماو

وفاة زعيم الصين الأهم ماو تسيدونغ في سبتمبر/أيلول 1976 شجعت على إطلاق مراجعة لمسيرة الحزب الشيوعي في الحكم، خصوصًا مع تصاعد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وهي التي مثلت فرصة للصين للاستفادة من التناقضات الدولية والتغيّرات في طبيعة الاقتصاد العالمي، مع بحث الدول الغربية - التي عانت في عقد السبعينيات من مستويات تضخم مالي مرتفعة - عن يد عاملة رخيصة توفّر منتجات أقل تكلفة يمكن للمجتمعات الغربية اقتناؤها.

إدراك القادة الصينيين في مرحلة ما بعد ماو تسيدونغ لمدى تأخّر البلاد، وصل ذروته مع الهزيمة التي لحقت بالقوات الصينية إثر غزوها فيتنام في 17 فبراير/شباط، وذلك للرد على غزو فيتنام لكمبوديا في ديسمبر/كانون الأول 1978، وإسقاطها حكم الحزب الشيوعي هناك. انسحبت القوات الصينية من شمال فيتنام في 16 مارس/آذار 1979 بعدما عجزت عن تحقيق أهدافها، وبعدما تكبدت خسائر كبيرة، عسكرية واقتصادية، دفعتها لتأجيل بعض خططها الاقتصادية.

لهذه الأسباب، والكثير غيرها، تبلور توافق لدى قيادة الحزب الشيوعي الصيني مفاده أن التعامل مع التحديات الإقليمية والدولية، والاستفادة من الفرص السياسية والاقتصادية السانحة، يتطلب مراجعة عميقة، تحديدًا لأخطاء العقود الثلاثة السابقة، والتي يمكن تلخيصها بآفة الحكم الفردي، وتقديم مصالح حفنة من الأفراد – ماو تسيدونغ بدايةً، ودوائر أخرى أشهرها ما عرف بـ"عصبة الأربعة" التي ضمت زوجة ماو وثلاثة من أتباعه – وكذلك تبنّي الصين سياسة خارجية تصعيدية، دفعت بعض جيرانها للعمل ضدها، وحرمتها من فرص اقتصادية وتجارية مهمة.

قرر الحزب الشيوعي التركيز على تطوير العلاقات الخارجية لتحقيق هدفين: الحصول على المساعدة التقنية من الغرب، والانفتاح على الدول الغنية بالموارد

سياسات ماو شملت دعم جماعات شيوعية وحركات تمرد مسلح، من الفلبين وصولًا لسلطنة عمان، وشملت كذلك التصعيد مع دول الجوار بما في ذلك من يُفترض أنهم أخوة في العقيدة الشيوعية، كما كان حال الاشتباكات الحدودية المسلحة مع الاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن الماضي، والعلاقات الفاترة مع كوريا الشمالية.

حرمت سياسات العقود الثلاثة الأولى للحزب الشيوعي الصين أيضًا من تحقيق التنمية الاقتصادية والعلمية. فالدولة الصينية هيمنت على الاقتصاد وأدارته بشكل مركزي. ولكن، على عكس بعض الدول الشيوعية ذات الحكم المركزي المفرط – مثل الاتحاد السوفيتي – تمتلك الصين موارد طبيعية ومعدنية محدودة للغاية. فعلى سبيل المثال، حصة الفرد في الصين من موارد النفط، والغاز الطبيعي، والنحاس، والألمنيوم تشكل، على التوالي، 8.3%، و4.1%، و25.5%، و9.7% من المتوسط العالمي لحصة الفرد. كما أن حصة الفرد في الصين من المياه هي ربع المتوسط العالمي، وحصته من الأراضي الصالحة للزراعة هي 40% من المتوسط العالمي.

بمعنى آخر، فإن الانغلاق تحت شعار الاعتماد على الذات لم يكن ممكنًا بشكل منطقي في الصين، خصوصًا إذا لم يكن هناك داعم خارجي، مثل الدول الغربية الداعمة لليابان وكوريا الجنوبية ودول مجموعة "آسيان"، ومثل الاتحاد السوفيتي الداعم لفييتنام وكوريا الشمالية.

وفي النتيجة، لم تعجز الصين فحسب عن منافسة النمو الاقتصادي والعلمي في اليابان – خصمها التاريخي – بل بقيت في مراتب متأخرة في معدلات النمو الاقتصادي، حتى خلف كوريا الشمالية.

القيادة الجماعيّة

للتعامل مع هذه الدروس، وواقع محدودية الموارد، والتأخر العلمي والتقني، تحرك الحزب الشيوعي الصيني على مسارين مترابطين: اقتصادي تنموي وسياسي إصلاحي. تمثّل المسار الاقتصادي والتنموي بشكل رئيس ببرنامج التحديثات الأربعة في مجالات الزراعة والصناعة والدفاع الوطني والعلوم والتكنولوجيا، وذلك لتأمين نهوض البلاد ورفع مستويات نموها بشكل استثنائي بحلول العام 2000.

ولتحقيق هذه الأهداف، قرر الحزب الشيوعي الصيني التركيز على تطوير العلاقات الخارجية والانفتاح على دول العالم كافة من دول شروط، وذلك لتحقيق هدفين: الحصول على المساعدات التقنية من الدول الغربية والمنظمات الدولية، والانفتاح على الدول الغنية بالموارد الأولية، خصوصًا في أفريقيا وأميركا الجنوبية.

ظهرت هذه الطروحات تدريجيًا في الصين منذ العام 1977، ولكن عادةً ما يُشار إلى الجلسة السنوية الرابعة للمؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب الشيوعي في أواخر 1979 باعتبارها المرحلة التي تبلورت فيها هذه الأفكار بشكل رسمي، خصوصًا مع صدور وثائق تُراجع مسيرة حكم الحزب في العقود الثلاثة السابقة. وقد كان العام 1979 مفصليًا أيضًا لكونه عام تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين. ومنذ ذلك الحين، تطورت علاقات الصين مع دول عدة، وإن استمر بعضها من دون علاقات دبلوماسية، كما كان الحال مع إسرائيل في ثمانينيات القرن الماضي.

كان تحقيق الأهداف الاقتصادية يتطلب استقرارًا في توجهات القيادة السياسية الصينية. ولضمان هذا الاستقرار، ظهر المسار الثاني لتحرك الحزب الشيوعي الصيني، المتمثل بوضع ضوابط على آلية اختيار القيادات العليا وحرية حركتها وأولوياتها، خصوصًا عبر ضمان عدم بروز زعيم مطلق الصلاحيات، وكذلك ضمان عدم انفراد رئيس البلاد باختيار خليفته.

هذه الضوابط صيغت بشكل تدريجي خلال ثمانينيات القرن الماضي، خصوصًا بين 1980 و1982. والدور الأبرز في صياغة تلك الضوابط عادة ما ينسب لدينغ شياوبينغ الذي تولى مناصب حزبية عدة بين 1978 و1989، لم يكن بينها منصب رئيس البلاد، الذي كان منصبًا إداريًا يقارب مناصب أخرى من حيث الأهمية مثل الأمين العام للحزب الشيوعي، ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، بل حتى منصب رئيس الوزراء. دور دينغ شياوبينغ في تشكيل الصين والحزب الشيوعي يقارب دور ماو تسيدونغ أو يفوقه، ولكن بالكاد يمكن العثور على تماثيل أو طوابع أو لوحات رسمية للرجل. وهذا ليس مفارقة، فمن أوائل ما قام به دينغ شياوبينغ مطلع الثمانينيات هو إلغاء ظاهرة تأليه القادة.

بالتزامن مع الاستقرار السياسي، كانت الصين تحقق معدلات نمو اقتصادي صاروخية، تجاوزت لسنوات عتبة العشرة في المئة سنويًا

التمعن في حقبة الثمانينيات، حتى مطلع التسعينيات، يُظهر أن هذه المناصب كانت موزعة على عدد من الأشخاص، وكان منصبا الرئيس ورئيس الوزراء تحديدًا في تلك الحقبة أضعف من قادة الحزب الشيوعي. ويمكن تلخيص التغييرات في حقبة ما بعد ماو تسيدونغ بالتفاصيل التالية:

أولاً، بروز ظاهرة القيادة الجماعية، حيث تتعاون دوائر قرار عدة، خصوصًا في الحزب الشيوعي، للاتفاق على تسمية المسؤولين، بما في ذلك منصب الرئيس ورئيس الوزراء.

ثانيًا، التخطيط الطويل الأمد، فقادة الحزب الشيوعي – خصوصًا ما عرف بـ"عصبة الخالدين" الثمانية في ثمانينيات القرن الماضي، و"عصبة شنغهاي" في التسعينيات والعقد الأول من الألفية – كانوا يتوافقون على اختيار القادة المستقبليين، وذلك قبل عقد أو أكثر من تسلّمهم المنصب. بمعنى آخر، لم يعد التساؤل محرمًا حول انتقال المسؤولية، وانتهت ظاهرة "الزعيم الفرد الذي لا بديل له".

وثالثاً، وضع قيدين مُهمين حول فترة الحكم وعمر المسؤول. إذ بات الحد الأقصى ولايتين من خمس سنوات، بشرط ألا يزيد عمر المسؤول عن 68 عامًا عند نهاية الولاية الثانية. شرطا عدم تجاوز الولايتين وعدم تجاوز سن معين كانا يعنيان عمليًا أن المسؤولين السابقين عند انتهاء ولايتيهم أو تجاوزهم سن 68 عامًا، سينضمون للرفاق الأقدم ويشاركون في آلية القيادة الجماعية. هذه القيادة الجماعية وآلية اختيار القادة المستقبليين لم تكن بطبيعة الحال آلية شفافة، ولا تزال حقيقة نقاشات ما حصل خلال العقود الثلاث الماضية محاطة بالغموض. ويبقى المؤشر الفعلي على اختيار قيادات جديدة هو منحها مناصب في مؤتمرات الحزب الشيوعي تمهيدًا لصعودها.

و يقدّم العام 1989 أمثلة مهمة في هذا المجال. فقد شهد تفجّر تظاهرات ووقوع اضطرابات سياسية في مناطق صينية عدة، سمح الانفتاحُ النسبي في السنوات السابقة بظهور اهتمام إعلامي وسياسي دولي بها. المثال الأشهر هو التظاهرات الطلابية في ميدان تيانامين، التي سحقها الجيش في 4 يونيو/حزيران 1989. قرّر قادة الحزب الشيوعي أن الأمين العام للحزب آنذاك جاو جيانغ كان ضعيفًا في مواجهة الحدث، فعُزل مع نهاية ذلك الشهر، وأُسند المنصب لجيانغ زيمين الذي تولى أيضًا بعد خمسة سنوات رئاسة البلاد.

جينبينغ يتقدّم المشهد تدريجيًا

ولكن ما هو أكثر أهمية هو أن تلك الاضطرابات دفعت قادة الحزب – وأغلبهم كانوا طاعنين في السن آنذاك – للبحث عن قيادات مستقبلية يمكن الرهان عليها. قادة الحزب، خصوصًا دينغ شياوبينغ، وجدوا في هو جينتاو، مسؤول الحزب الشيوعي في التيبت، السمات التي يبحثون عنها، بعد نجاحه في القضاء على تظاهرات التيبت في مارس/آذار 1989. وفي العام 1992، عُين هو جينتاو في اللجنة الدائمة للحزب الشيوعي الصيني، واتُخذ القرار – غير المعلن بطبيعة الحال حينها – بأن هو جينتاو سيتولى قيادة البلاد مع انتهاء رئاسة جيانغ زيمين في 2002.

منذ 1992، بدأ المشهد السياسي الصيني يستقر من حيث آليات اتخاذ القرار وتعيين المسؤولين، وعاد موقع الرئيس ليكتسب صلاحيات مهمة. لكن ذلك كان أيضًا نتيجة العودة التدريجية لظاهرة جمع المناصب، أي إمساك الرئيس بموقع أمين عام الحزب الشيوعي ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، وهي عمليًا المناصب الثلاث الأهم، ولكنها ظلّت تحت رقابة الدوائر العميقة للحزب وآليات القيادة الجماعية.

وبالتزامن مع هذا الاستقرار السياسي، كانت الصين تحقق معدلات نمو اقتصادي صاروخية، تجاوزت لسنوات عتبة العشرة في المئة سنويًا. ودخلت الصين منظمة التجارة العالمية، وتمكّنت من الاستفادة من تراكم رؤوس الأموال عبر عقدين من التنمية الاقتصادية لتتبادل الأدوار مع العديد من القوى الغربية، وتتحول هي إلى ممول للاستثمارات في الغرب، وتشتري حصصًا في العديد من الفعاليات الاقتصادية الغربية الكبرى، بل تمول مشاريع طاقة وبنى تحتية عملاقة في الغرب. ولهذا، كانت الصين من بين الأقل تأثرًا بالأزمة المالية العالمية في 2007-2008.

هكذا، بدت مسيرة صعود الصين وانفرادها بالهيمنة على العالم شبه محتمة.  وقد رافقت هذه الإنجازات الاقتصادية سياسةٌ خارجيةٌ صينيّة حذرة للغاية، وتجنب الصدام إلى أبعد مدى ممكن. فعلى سبيل المثال، لم يؤدِ القصف الأميركي الخاطئ للقنصلية الصينية في العاصمة الصربية بلغراد في مايو/أيار 1999 إلى أزمة بين البلدين، بل مضت الصين في مارس/آذار 2003 لإعطاء إحداثيات مواقعها الدبلوماسية في بغداد للولايات المتحدة، لتجنب استهدافها عن طريق الخطأ مع انطلاق الغزو الأميركي للعراق!

في مطلع الثمانينيات، أعاد قادة الحزب الشيوعي تعريف دور الرئيس ورئيس الوزراء ومسؤولين آخرين ليكونوا أقرب لأعضاء مجلس إدارة شركة عملاقة

ولكن مع مطلع الألفية، توفي العديد من القادة القدامى الذين وضعوا ضوابط التعيينات في ثمانينيات القرن الماضي، خصوصًا من "عصبة الخالدين". ومع انتهاء ولايته كرئيس وأمين عام للحزب، في 2002، كان جيانغ زيمين لا يزال يتمتع بنفوذ كبير بفضل احتفاظه بمنصب رئيس اللجنة العسكرية المركزية حتى 2004. وبسبب هذه العوامل، نجح زيمين بترجيح كفة تشي جينبينغ في 2002 ليكون الزعيم التالي للبلاد بعد انتهاء ولاية هو جينتاو في 2012. علمًا بأن تشي جينبينغ كان، عام 2002، في التاسعة والأربعين من عمره ويتولى منصب حاكم فوجيان. وقد عُيّن عام 2007 في اللجنة الدائمة للحزب، وفي 2008 عين نائبًا للرئيس هو جينتاو تمهيدًا للحلول محله.

غير أن عوامل الضعف البنيوية للنظام السياسي الصيني بدأت تظهر بالفعل مع تولي تشي جينبينغ مقاليد الحكم. فغياب الآليات الواضحة التي تضبط عملية اختيار القادة المستقبلين واعتمادها على توافقات غامضة في دوائر مغلقة، بما يحفظ مصالح القادة القدامى، كان يعني بشكل شبه حتمي عودة النزعة الفردية في مرحلة ما في المستقبل، خصوصًا بعدما يخرج من المشهد القادة القدامى الذين اختبروا أهوال المجاعة والتهميش في الصين خلال العقود الثلاثة الأولى لحكم الحزب الشيوعي.

حكم فردي يلوح في الأفق؟

ترتيبات انتقال الحكم التي صيغ القسم الأهم منها في 1982، بدأت بالتفكك في الولاية الأولى للرئيس تشي جينبينغ. فتحت شعار محاربة الفساد، أطاح تشي جينبينغ بالكثير من منافسيه، بما في ذلك خليفته المفترض الذي كان يجب أن يُعين في اللجنة الدائمة للحزب الشيوعي مع نهاية ولاية تشي الأولى، في 2017، لكي يخلفه مع نهاية الولاية الثانية في 2022. ومضى تشي جينبينغ أبعد من ذلك لضمان عدم بروز خليفة محتمل. ففي المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب في 2017، اختيرت لجنة دائمة جديدة للحزب برئاسة تشي جينبينغ، يتجاوز جميع أعضائها الستة الباقون عتبة الستين عامًا، ما يعني أن أيًا منهم لا يمكن أن يكون في سن يسمح بالبروز كخليفة لتشي جينبينغ في 2022 (يجب ألا يتجاوز الزعيم الجديد في 2022 سن 58 عامًا). وفي مارس/آذار 2018، رفع البرلمان الصيني القيود على احتفاظ الرئيس بمنصبه لأكثر من ولايتين، و أقر البرلمان الصيني هذا التعديل الدستوري بطبيعة الحال بغالبية 99.83% (وافق عليه 2,958 من أصل 2,964 عضوًا). 

وبالتوازي مع تنامي نفوذ تشي جينبينغ وتهميش الشخصيات المنافسة في الداخل، برزت في الخارج سياسة صينية جديدة عنوانها الرئيس، خصوصًا منذ 2013، التراجع عن استراتيجية المهادنة للتركيز على التنمية الاقتصادية، لمصلحة تبني استراتيجية تقوم على الاستفادة من الهيمنة الاقتصادية لتحقيق هيمنة سياسية وعسكرية في الخارج.

كان هذا الهدف البعيد للصين، لكنّ ما حصل في عهد تشي جينبينغ هو استعجال تحقيق الهدف الذي لم تتوفر الظروف المناسبة لنضجه. النزعة الفردية للقيادة الصينية الحالية والتركيز على مكاسب قصيرة المدى، تضع ما يمكن للصين تحقيقه منتصف هذا القرن على المحكّ، خصوصًا أن جينبينغ يمضي الآن لتكرار نموذج البقاء في الحكم مثل ماو تسيدونغ، علمًا بأن جينبينغ لم يصل حتى الآن لعتبة السبعين عامًا، وهو يبدو بصحة جيدة يمكن أن تبقيه في الحكم لعقد آخر على الأقل، خصوصًا أنه، على عكس ماو، يستند إلى تراكمات اقتصادية هائلة.

ولكن حتى هذه التراكمات تبدو مرشحة لأن تتبدد مع استمرار القيادة الصينية بمقاربتها الحالية. ففي مطلع الثمانينيات، أعاد قادة الحزب الشيوعي تعريف دور الرئيس ورئيس الوزراء وغيرهم من المسؤولين ليكونوا أقرب لأعضاء مجلس إدارة شركة عملاقة، يحاسبون ويكرمون بحسب إنجازاتهم الاقتصادية الواضحة. بينما ما يحصل في الصين منذ 2012 هو التضحية التدريجية بالأولويات الاقتصادية من دون أي محاسبة للقيادة. تجربتا مشروع "مبادرة الحزام والطريق" - المعروف أيضًا بطريق الحرير الجديد – والتعامل مع أزمة وباء فيروس "كورونا"، هي أمثلة مهمة.

صحيح أن مشروع "مبادرة الحزام والطريق" يدعم نظريًا طموحات الصين بمد نفوذها حول العالم، لكن المشروع اتسم بضعف واضح في التخطيط، أدى لتقديم عشرات مليارات الدولارات من القروض لحكومات فاسدة بهدف إنشاء مطارات وموانئ كبيرة، لكن من دون جدوى اقتصادية فعلية، لتكون النتيجة تغذية الدعاية الغربية بأن الصين تستخدم فخ الديون لمد نفوذها، فيما تزداد الضغوط على بعض الحكومات لحين انهيارها، ولينته الأمر بامتلاك الصين كتلًا خرسانية هائلة لا جدوى اقتصادية لها، كما هو الحال مع ميناء هامبانتوتا في سريلانكا الذي انتقلت ملكيته للصين بعد فشل الحكومة السريلانكية بتسديد قروض إنشائه. إذ لا مبرر اقتصادي لإنشاء ذلك الميناء في ذاك الموقع الذي اختارته الحكومة السريلانكية لكونه مسقط رأس عائلة راجاباكسا التي ضمت رئيس البلاد ووزير دفاعها آنذاك.

ساهمت أعباء الديون الصينية بتفاقم الأزمة المالية التي أودت بالحكومة السريلانكية هذا الصيف، فيما تواجه حكومات عدة مصيرًا مشابهًا في السنوات القليلة المقبلة. أما في الصين نفسها، فقد ظهر بوضوح تراجع حديث الرئيس الصيني عن مشروع "مبادرة الحزام والطريق"، ولم يشر تشي جينبينغ منذ مطلع 2022 في أي من خطبه السياسية في الصين لهذا المشروع، علمًا بأن تشي جينبينغ اعتاد لسنوات إعطاء موقع مركزي للمشروع في خطبه السياسية.

تحول المشروع إلى عبء اقتصادي على الصين، لكن أحدًا لن يحاسب على الأخطاء التي ارتكبت في هذا المشروع، كما لن يُحاسب جينبينغ على فشل الحكومة الصينية في إنجاز حملات تلقيح شاملة لمواجهة فيروس "كورونا" برغم تصدر الصين المفترض لعملية تطوير اللقاح. التأخر في إتمام حملات التلقيح جعل الإغلاق الاقتصادي الشامل هو الخيار الأول للحكومة الصينية التي تفضل حظر الحديث حول هذا الملف، كما تفضل حظر الحديث عن أزمة القطاع العقاري الذي يشكل قرابة ثلث الناتج الاقتصادي الصيني.

دور القيادة الصينية كمجلس إدارة لشركة عملاقة انتهى بالفعل، وعادت مرحلة تأليه القادة وتحريم الحديث عن أخطائهم وخلافتهم. ظاهرة "الحكم إلى الأبد" وتأليه الحكام عادت للصين وانتهت "البدع" التي خلقها دينغ شياوبينغ ورفاقه بين 1979 و1992.

على الأغلب أن مسعى الصين للهيمنة على العالم لم يعد نتيجة طبيعية لنجاح خططها الطويلة الأمد، بل بات مشروطًا بفشل خطط منافسيها. إلا أن سياسات تشي جينبينغ في السنوات الأخيرة – كما هو الحال مع سياسات بوتين – أيقظت خصوم الصين من غفلتهم.

Image Credit: STR/AFP

الاقتصاد السياسي للبنى التحتية في سوريا: الكهرباء مثالًا

يتركّز النقاش السوري على مدى توفّر المواد الأولية اللازمة لتلبية المتطلبات المباشرة للسوريين، خصوصًا..

محمد صالح الفتيح
الآثار الاقتصادية العميقة للحرب الروسيّة - الأوكرانيّة

قد تتمكن القيادة الروسية من الحد من الانكماش الاقتصادي. لكن الحفاظ على النفوذ في الخارج يحتاج إلى قدرات..

محمد صالح الفتيح
حسمٌ متعثر في طرابلس وتفضيل دولي للوضع الراهن

إن كان سوء الظن من حسن الفطن، فلا بد من التساؤل عما إذا كانت مصالح شركات النفط الفرنسية، توتال،..

محمد صالح الفتيح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة