كان شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 1997 مفصليًّا في تاريخ الاتحاد الأوروبي، بعدما وُقعت "معاهدة أمستردام"، وبات في وسع "الآباء المؤسسين" للاتحاد أن يحظوا بمزيد من "السكينة".
مثّلت المعاهدة التي دخلت حيز التطبيق بعد عامين من توقيعها (أيار/مايو 1999) علامة فارقة في مسار الديمقراطية الأوروبية. كيف لا، وقد اهتمّت بشكل أساسي بـ"توطيد أسس الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان داخل بلدان الاتحاد، وتقوية أسس العدالة، ومنع كل نزعة عنصرية"؟
أضفت اتفاقية "أمستردام" بصمة بالغة الأهمية على مشروع الاتحاد الأوروبي، وخطوة في مسار الانتقال من طور التحالفات الاقتصادية ("المجموعة الأوروبية للفحم والصلب"، ثم "الجماعة الاقتصاديَّة الأوروبيَّة"، و"الجماعة الأوروبيَّة للطاقة الذريَّة") إلى مرحلة تتّسم بهيكلة سياسية أمتن، عبر منح سلطة تشريعية للبرلمان الأوروبي الموحد، وإن ظلّ دون حلم "الأمة الفيدرالية"، كما نادى به رئيس الوزراء البريطاني الأشهر، وأحد الآباء الروحيين للاتحاد الأوروبي وينستون تشرشل/ Winston Churchill (1874-1965).
في العام 2004، كتب السياسي الفرنسي ميشال روكار/ MICHEL ROCARD (شغل منصب رئيس الوزراء الفرنسي بين عامي 1988 و1991) يتغنّى بمفخرة الاتحاد الأوروبي، الذي سـ"يضمن لأوروبا سلامًا نهائيًا دائمًا". كان عنوان مقالة روكار: "ترسيخ الديمقراطية في أوروبا".
لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع عن احتجازٍ أو منعِ تضامنٍ أو فرضِ الوقوف دقيقة صمت في المدارس تضامنًا مع "مدنيي إسرائيل"
في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2023، أي بعد ربع قرن وبضعة أيام من توقيع "أمستردام"، ونحو عشرين عامًا من مقالة روكار، نشر صانع محتوى عربيّ يعيش في هولندا ذاتها شريطًا مصورًا يسأل فيه المارّة: "فلسطين أم إسرائيل؟ ولماذا؟"، وبدا لافتًا عدد أولئك الذين تحاشوا الإدلاء بأي تعليق، متنازلين عن حق إبداء الرأي.
بالطبع، لا يمكن عدّ الشريط المصوّر بمفرده مؤشرًا على أي شيء، إذ قد يتنازل البعض عن حق التعبير "طواعية". لكن هذه المفردة تكاد تكونُ ناشزة لدى استعراض سياق حق التعبير في أوروبا، منذ اندلاع أحدث فصول الحدث الأوكراني قبل عام ونصف العام، ثمّ، وبشكل أشدّ وضوحًا، مع عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من تدشين سلطات الاحتلال فصلًا جديدًا من فصول الإبادة والتهجير القسري ضد الفلسطينيين.
فلا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع أو نقرأ عن إجراءات لتقييد الرأي والتعبير في كبريات الدول الأوروبية، بدءًا من ألمانيا مع "سيف معاداة السامية" المتأهب دائمًا، مرورًا بهولندا، وليس انتهاء بفرنسا: احتجاز هنا، اعتقال هناك، منع تضامن، فرضُ الوقوف دقيقة صمت في المدارس تضامنًا مع "مدنيي إسرائيل"، إلخ.
"تيمين" الرأي العام؟
ثمة الكثير مما يُمكن قوله في حديث "ازدواجية المعايير"، والانحياز الغربي بشكل عام، والأوروبي ضمنًا إلى "إسرائيل"، وهو بالطبع ليس حديثًا مستجدًا. غير أنه راح يعبّر عن نفسه بوضوح في الأحداث الأخيرة.
وقد يكون أخطر ما في هذا الوضوح المتصاعد، تزامنه مع صعود مطّرد لليمين في العديد من دول الاتحاد. إذ، وبرغم أنّ اليمين لا يُمسك بزمام الحكم في غالبية دول الاتحاد، فإن هذا النزوع نحو تقييد حرية التعبير، بما ينطوي عليه من تقويض لجوهر الديمقراطية، يكاد يحقق أبرز التخوفات التي يُحذّر من حصولها في حال هيمنة اليمين!
وبصياغة أخرى: تنحو السلطات ـــ غير اليمينية ـــ في كبريات الدول الأوروبية نحو تحويل تحذيراتها من "مخاطر وصول اليمين إلى الحكم" إلى أمر واقع تُجذره بنفسها!
"يتحمل الصحافيون مسؤولية كبيرة عن تقييد حرية التعبير"، القائل هو مؤسس منظمة "صحافيون بلا حدود"!
ويبدو بديهيًا أن هذا التضييق المتتالي على الحريات قد يكون كفيلًا بزيادة شعبية الأحزاب اليمينية في العديد من دول الاتحاد، لا محبة بتلك الأحزاب وبرامجها بالضرورة، وإنما بوصفها "بديلًا لا بدّ منه"، ليس فقط أملًا في الحلول الاقتصادية كما حصل مرارًا عبر السنوات الماضية (أحدثها صعود اليمين في إسبانيا، مع التردي الاقتصادي المستمر)، بل ولأجل "الحرية والديمقراطية"!
ومع أن المفارقة قد تبدو طريفة للوهلة الأولى، لكن لا يبدو مستغربًا على الإطلاق أن نجد بعد سنوات أحزابًا يمينية تخوض معارك سياسية في بعض الدول الأوروبية رافعة شعارات الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما دمنا نعايش سلطات ديمقراطية ليبرالية تحكم بأدوات شموليّة!
حكاية (ليست) فردية
"يتحمل الصحافيون مسؤولية كبيرة عن تقييد حرية التعبير". قد لا يبدو هذا القول مثيرًا للاستغراب في ظل تزايد النزعات العدائية ضد الصحافيين، وتعالي أصوات دُعاة تقييد حريات الرأي والتعبير.
على الأرجح، لن يُفاجأ القارئ لو أننا نسبنا هذا الاقتباس إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مثلًا. لكن ماذا لو علمنا أن القائل هو روبير مينار/ Robert Menard؟
ولأن الاسم بمفرده قد لا يعني شيئًا، فلا بد من إيضاح إضافي: إنه مؤسس منظمة من أبرز الجهات المدافعة عن حق الرأي والتعبير، الراصدة للانتهاكات التي تطاول الصحافيين في أنحاء المعمورة، وهي "مراسلون بلا حدود" التي ظلّ على رأسها مدة 23 عامًا، قبل أن يستقيل في العام 2008، ثم يتولى إدارة "مركز الدوحة لحرية الإعلام" شهورًا، استقال بعدها احتجاجًا على إيقاف الحكومة القطرية تمويل المركز.
ماذا يتبقّى من الديمقراطية حين تتحول إلى مجرد صندوق انتخابي وتسلب حق التعبير؟
منذ العام 2014، يشغل مينار منصب عمدة مدينة بيزييه، بفضل دعم "الجبهة الوطنية"، رمز اليمين المتطرف في فرنسا بزعامة ماري لوبان، في تحول دراماتيكي مثير للدهشة في مسيرة الرجل الذي انطلق من تجربة نضالية يسارية نحو تأسيس "مراسلون بلا حدود".
في العام 2002، قال مينار في مؤتمر صحفي إن "الجيش الإسرائيلي يتعمد استهداف الصحافيين من خلال سياسة متعمدة للترويع"، بهدف منعهم من تغطية هجوم شنه جيش الاحتلال وقتذاك ضد مدن الضفة الغربية.
أخيرًا، وقبل أسبوع، حلّ مينار ضيفًا على برنامج تلفزيوني فرنسي، وانطلق يقول بحماسة: "علينا أن نقف إلى جانب إسرائيل دون أي قيد أو شرط". هذه حكاية "تحول فردي" بالطبع، غير أنها تصلح مثالًا حيًّا عن مسارات تسلكها أحزاب، وحكومات، ودول.
نحو ديمقراطيات مستبدة؟!
"حين تتسلق التوتاليتارية (الشمولية) السلطة، تعمل على تدمير كل التقاليد السياسية والاجتماعية والتشريعات القانونية عن طريق بروباغندا في غسل العقل الجمعي الجماهيري وتوجيهه وخداعه، ويسحب النظام معه إلى الحكم أدوات الحركة، كشمولية السيطرة على حياة أفراد الدولة بكل أجزائها وفي مجالاتها كافة، عن طريق التلويح بالإرهاب، ليسهُل سوقهم والسيطرة عليهم".
لا يتحدث هذا الاقتباس الطويل من حنّة أرندت/ Hannah Arendt عن الديمقراطية بطبيعة الحال، بل عن الحكم الشمولي الاستبدادي. لكن ماذا يتبقّى من الديمقراطية حين تتحول إلى مجرد صندوق انتخابي وتسلب حق التعبير؟
لا شيء، سوى حقك في انتخاب المستبدّ الذي سيسلب حقوقك!