الحصاد الأسود: البذور والجذور

كانت نهاية الدولة العثمانية وزوال الخلافة، وفقًا لأبي مصعب السوري، "صدمة كبرى" زلزلت العالم الإسلامي. دفعت مذاك الوقت تلك الصدمة بعض المنظرين، كالبنا وقطب والمودودي، إلى السعي لإعادة إحياء الخلافة. تتبع هذه المقالة بذور نشوء الفكرة وكيفية تجذّرها في مختلف المجتمعات الإسلامية وتبنيها الفكر الجهادي في سبيل تحقيق ذلك الهدف.

مقدمة

يُعيد أبو مصعب السوري بذور "الصحوة الإسلاميّة" إلى أواسط القرن الثامن عشر، حين "حاول بعض روّادها ترميم الدّولة العثمانيّة وإصلاحها والتعاون مع صلحائها والتوجّهات الحثيثة للسّلطان عبد الحميد في الإصلاح". كانت نهاية الدولة العثمانية "صدمة كبرى" وفقًا للسوري (يستعمل مصطلح "زوال الخلافة") أدّت إلى "ردة فعلٍ في العالم الإسلاميّ على هذا الزلزال، تمخّضت عن ميلاد صحوة إسلاميّة مختلفة المشارب والأهداف تسعى كلها في النّهاية إلى إعادة الخلافة".  

يُعد أبو مصعب (مصطفى ست مريم نصّار، 1958 - ؟) أحد أبرز "المنظرين الجهاديين" رغم أن شهرته قد تكون أقلّ من سواه. أتاحت له مسيرته الحافلة (بين الأردن، والعراق، والسعودية، وفرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا، وأفغانستان، وإيران، وباكستان، فضلًا عن سوريا) اكتساب مهارات متنوعة، إذ درس لفترة (نحو عام) الهندسة الميكانيكية في فرنسا التي سكنها بين 1983 و1985 (كان قد درس الاختصاص نفسه في جامعة حلب أواخر السبعينيات)، ثم حصل على ليسانس في التاريخ من جامعة بيروت العربية (بالمراسلة) العام 1989، بالتزامن مع دراسته اللغة الإسبانية (تزوج سيدة إسبانية عام 1988 وحصل على جنسيتها)، علاوة على خبرة إعلامية حصلها من أعمال عديدة، أهمها تعاونه مع شبكة CNN. في عمر 22 عامًا تلقى تدريبات متقدمة على أيدي ضباط مصريين وعراقيين في "معسكر الرشيد التابع للجيش العراقي في بغداد عام 1980" متدربًا لصالح "جماعة الإخوان المسلمين"، وكان واحدًا من ثلاثين هم "نخبة الجهاز العسكري للإخوان السوريين" حينها. يروي في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية" من ذكرياته عن الدرس الأول في ذلك المعسكر: "كان المدرب من الرعيل الأول، ومن الذين بايعوا الشيخ حسن البنا وصحب سيد قطب. كان أول ما قاله لنا بلهجته المصرية: إنتو إخوان مسلمين؟ فقلنا: نعم. فقال: متأكدين يا بني؟ قلنا: متأكدين. فقال مشيرًا إلى عنقه: يِبَقى حَتِدِّبحُوا كُلُّكُو.. موافقين؟ فقلنا جميعًا والسرور يغمرنا: موافقين يا بيه. فاستدار إلى السبورة وكتب عليها عنوان أولى المحاضرات: الإرهاب فريضة والاغتيال سنة". ما تقدم، مجرد تكثيف لمسيرة السوري الحافلة التي تخوّل عدّه مرجعًا مهمًّا لدراسة الفكر "الجهادي" من الداخل، لا سيّما أنه اهتم بالتأريخ، والتحليل، واستخلاص العبر.

"منظرو الجهاد" الصحافيون!

يلخص أبو مصعب "البنية الفكرية للتيار الجهادي المعاصر" بالمعادلة التالية: أساسيات من فكر الإخوان المسلمين + المنهج الحركي للشهيد سيد قطب + الفقه السياسي الشرعي للإمام ابن تيمية والمدرسة السلفية + التراث الفقهي العقدي للدعوة الوهابية  ← المنهج السّياسي الشّرعي الحركي للتيار الجهادي. ثمّة علاماتٌ فارقة إذًا حفرت أسماءها في مسار الدّعوة "الجهاديّة" المعاصرة، ونركز هنا على منظّرين لعبوا دورًا أساسيًّا في تأسيس البنية الفكرية للتّنظيمات "الجهاديّة"، وتأصيل مبدأ "الحاكمية" وهو عماد "الخلافة". ويبدو لافتًا للانتباه على نحو مثير أن كلًّا من الشخصيات التي نتناولها قد عملت في مجال الصحافة.

حسن البنّا

حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنّا 1906 - 1949م. مؤسّس "جماعة الإخوان المسلمين" في مصر عام 1928، والمرشد الأول لها ورئيس تحرير أول جريدة أصدرتها عام 1933. تُعدّ الجماعة وفقًا لأبو مصعب "الجماعة الأم لمعظم الحركات الأصوليّة السّياسيّة، وحتى كثير من الجهاديّة في العالم العربيّ والإسلامي". حرص البنّا على رسم منهج الجماعة بأسلوب يحترف المداورة، ويخفّف من غلواء الصّدامية عند الضّرورة. تتجلّى أوضح البراهين في "رسائل البنّا" (صدرت في كتاب باسم "مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنّا" - دار الدعوة، الطبعة الأولى 1999). لنأخذ مثلًا الموقف من القُطريّة والقوميّة، إنّه يرفض الرّابطتين ويعتقد بطلانَهما ولكنّه يطرح ذلك بأسلوب "سياسي". وفي معرض تعريفه بـ"دعوة الجماعة" يقول عن الوطنيّة "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فأنّنا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالحدود الجغرافية، فكلّ بقعة فيها مسلم يقول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وطنٌ عندنا، له حرمته وقداسته والجهاد في سبيل خيره". ينطوي هذا الكلام على ما قد يصحّ عدّه أوّل تنظير معاصر لـ"عولمة الجهاد"، عبر حرص الجماعة على "الجهاد في سبيل أي وطنٍ فيه مُسلم واحد". أمّا "الجهاد" بحد ذاته، فيتمسك البنّا بأنّه "فرض عين". نقرأ في "رسالة الجهاد" الشهيرة التي كتبها عام 1947: "...أجمع أهل العلم على أنّ الجهاد فرضُ كفاية على الأمّة الإسلاميّة لنشر الدعوة، وفرضُ عينٍ لدفع هجوم الكفار عليها. والمسلمون الآن كما تعلمون مُستذلّون لغيرهم محكومون بالكفّار (...) فوجب وجوبًا عينًا لا مناص منه أن يتجهّز كلّ مسلم وأن ينطوي على نيّة الجهاد وإعداد العدّة له".

سيّد قطب

لم يكن حسن البنّا المساهم الإخواني الأبرز في وضع المرتكزات الجهاديّة، لقد حُجزت تلك المكانة لوافد سينضمّ إلى "الجماعة" عام 1953 بعد نحو ربع قرنٍ من تأسيسها وهو المُنظّر المصري الشهير سيّد قطب (1906- 1966). يؤكّد أبو مصعب السوري أنّ "رائد الفكر الجهادي في العصر الحديث بلا منازع والذي يعود لأفكاره ميلاد منهج التّفكير ونظريات الحركة في التيار الجهادي المعاصر كان بلا شك الأستاذ الشهيد المعلم سيد قطب رحمه الله". تولى بعد انتسابه قسم نشر الدعوة، وترأس تحرير جريدة الإخوان المسلمين. اعتقل مطلع العام 1954 فترةً وجيزة، ثم أُطلق سراحه. اعتُقل بعد أشهر إثر حادثة المنشية الشهيرة حين تعرض الرئيس جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال اتُّهم الإخوان بتدبيرها. حكم عليه بالسجن 15 سنة، وأفرج عنه بوساطة من الرئيس العراقي عبد السلام عارف في أيار 1964. بعد أقل من عام قُبض عليه من جديد. "تنظيم 65" كان الاتهام الذي أودى بحياته، مع عدد من أعضاء الجماعة. وجاء في نص الاتهام في أوراق القضية رقم 12 لسنة 1965م: "المتهمون حاولوا تغيير دستور الدولة وشكل الحكومة فيها بالقوة (...) باغتيال السيد رئيس الجمهورية والقائمين على الحكم في البلاد وتخريب المنشآت العامة وإثارة الفتنة في البلاد". حُكم على قطب بالإعدام، ونُفذ الحكم في أواخر آب 1966. كان قطب علامةً فارقةً يصعبُ القفزُ فوقها، لا بسبب نتاجه فحسب، بل بفضل الصّورة التي انتهت فيها حياته وحوّلته "شهيدًا". وحتى اليوم يحظى بتقدير كبير لدى "الجهاديين" يضاهي ما يحظى به قادة ميدانيون، من أمثال عبد الله عزّام وأسامة بن لادن، بل ويتفوّق عليه. على سبيل المثال، يردُ ذكر سيّد قطب في كتاب أبو مصعب السّوري "دعوة المقاومة الإسلاميّة العالمية" أربعًا وثلاثين مرّة، مقرونًا في معظمها بصفات تبجيليّة، ولا يُذكر مرجعٌ في كتاب السوري أكثر من قطب سوى ابن تيميّة الذي يرد اسمُه في الكتاب قرابة مئة مرّة. أما أيمن الظّواهري، فيستهلّ كتابه "فرسان تحت راية النّبي" بالحديث عن قطب ويعدّه "شرارة انطلاق الحركة الجهاديّة"، فيما ألف عبد الله عزّام كتابًا صغير الحجم عن قطب، بعنوان "عملاق الفكر الإسلامي سيّد قطب".

أبو الأعلى المودودي

أبو الأعلى بن أحمد حسن المودودي. وُلد في أيلول 1903 في حيدر أباد بجنوب الهند. يُلقبه المتحمّسون له "عملاق الفكر الإسلامي". اشتغل في الصحافة منذ العام 1920م، وتدرّج من محرّر في جريدة "المدينة" الأسبوعية، إلى رئيس تحرير الجريدة اليومية "تاج مسلم" التي تصدر في دلهي، ثم تسلّم رئاسة تحرير "جريدة جمعية علماء المسلمين في الهند". عام 1926 كتب سلسلة مقالات بعنوان "الجهاد في الإسلام"، ثم نشرها مجموعةً في كتيّب واحد حمل العنوان نفسه وكان أول منشوراته التي تناولت الجهاد. أسّس المودودي "الجماعة الإسلاميّة" في الهند، في آب 1941 وأُعلن أميرًا لها. ورغم عدم وجود وثيقة تؤكّد ذلك؛ فالمرجح أنه استلهم الخطوط العامّة من "الإخوان المسلمين" التي سبقت تأسيس جماعته بثلاثة عشر عامًا. مع إعلان قيام دولة باكستان الإسلاميّة في آب 1947 انتقل المودودي إلى لاهور، فأسّس مقرًّا لـ"الجماعة الإسلامية"، وقاد حملات للمطالبة بالحكم باسم الشريعة الإسلاميّة في باكستان، ثم اعتُقل عام 1953 بتهمة "تأجيج الفتن الطائفيّة"، وحُكم عليه بالإعدام. خُفف الحكم إلى السّجن مدى الحياة، ثم أسقِط عنه عام 1955. زار سوريا والأردن والسعودية عام 1956، وفي أوائل ستينيّات القرن الماضي زار مصر حيثُ أقيم حفلٌ كبيرٌ على شرفه برئاسة شيخ الأزهر الإمام محمود شلتوت. عام 1972 تخلّى عن منصب "أمير الجماعة الإسلاميّة" وتفرّغ للتأليف والكتابة. نال "جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام" عام 1978. وفي نيسان 1979 ساءت حالته الصحية، وسافر إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج، وفيها توفّي في أيلول 1979.

"الحاكميّة"

كان مبدأ "توحيد الحاكميّة" هو أخطر ما نظّر له المودودي، وتوسّع فيه سيّد قطب، ليتحوّل هذا المبدأ إلى ركن أساسي من أركان الحركات الجهاديّة، وأسس إحياء الخلافة في العصر الحديث. لا تنبع خطورة "الحاكميّة" من ذاته فحسب، بل من تداخله وتكامله مع مجموعةٍ من المفاهيم المرتبطة به وعلى رأسها "الاستخلاف". لا يمكن شرح المفهوم بدقة بلا استفاضة، لكن موجزه أن "الحكم في الأرض لله وحده، ولمن يستخلفه ليحكم باسمه وفق الشريعة". يقوم جوهر "الحاكميّة" على الآية 40 من سورة يوسف «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ» معطوفةً على سلسلة آيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة، منها «وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا» (الكهف، 26)، و«أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة، 50). يرى المودودي أن "الحاكميّة في الإسلام خالصة لله وحده، ليس بالمعنى الديني فحسب، بل بالمعنى السّياسيّ والقانونيّ كذلك، وإنّ الإنسان لا حظّ له من الحاكميّة إطلاقًا، فالله ليس مجرّد خالقٍ فقط، وإنّما هو حاكمٌ كذلك وآمر". أمّا سيد قطب فيستهلّ كتابه "معالم في الطريق" بمقدّمة تُركّز على "الحاكميّة" بوصفها مفتاحًا لإعادة الأمة الإسلاميّة إلى المكانة التي تستحقّها، شريطة أن تتمثّل البوصلة الحقيقية وهي الإسلام. ولدى بحثه عن المؤهّلات التي تخوّل الأمّة قيادة العالم يُسلّم بأنّ "هذه الأمّة لا تملك الآن - وليس مطلوبًا منها - أن تُقدّم للبشرية تفوّقًا خارقًا في الإبداع المادي، فالعبقريّة الأوروبيّة قد سبقت في هذا المضمار سبقًا واسعًا. وليس من المنتظر - خلال قرون على الأقل - التفوّق المادي عليها. فلا بدّ إذًا من مؤهلٍ آخر، المؤهل الذي تفتقده هذه الحضارة"، وهنا يُقدّم قطب الوصفة السّحريّة، إنّها باختصار وبساطة "العقيدة"، فـ"العالم يعيش اليوم كلّه في جاهلية"، والسّبب الرئيس لهذه "الجاهليّة" غياب تنفيذ مبدأ "الحاكميّة"، إذ تقوم "هذه الجاهليّة على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخصّ خصائص الألوهيّة، وهي الحاكميّة، إنها تُسند الحاكميّة إلى البشر". وإذا كانَ المؤهّل الأوّل لتولي "الأمّة الإسلاميّة" زمام قيادة العالم هو أمرٌ مرتبطٌ بإرادة عُلوية / إلهيّة، فإنّ التصدّي لإحلال هذه الإرادة وإنفاذها يتطلّب "جهدًا / جهادًا"، ولا بدّ من فئةٍ تتنطّع لقيادته، بـ"إعلان ألوهيّة الله وحده، والثّورة الشّاملة على حاكميّة البشر، وبإزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكميّة البشر". إنّ الدّارس لتنظير قطب حول "الحاكميّة" سيلاحظ بيُسر أنّ المبدأ المذكور ليس سوى مفتاح لإعلان الجهاد في كل اتجاه، وسيقف فيه بوضوح على واحدٍ من أشدّ مسوّغات معاداة "الجهاديين" اليوم للقوانين المدنيّة / الوضعيّة. أمّا المودودي فيرى أنّ "الإسلام يعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها، ولا يتحرّج في استخدام القوّة الحربيّة لذلك، وهو لا يريد أن يُكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، إنّما يريد أن ينتزع زمام الأمر ممّن يؤمنون بالمبادئ والنّظم الباطلة، حتى يستتبّ الأمر لحملة لواء الحق". قد يُفهم من كلام المودودي أنّ اعتناق الإسلام هو مسألة اختياريّة، ولا يُراد إكراه المُخالفينَ على اعتناقه، غيرَ أنّ قطب يتنبّه إلى هذه "الثّغرة" ويُسارعُ إلى سدّها عبر التّشديد على أنّ "الإسلام إعلان عام لتحرير الإنسان من العبوديّة للعباد. يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكميّة البشر للبشر، ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارًا في اختيار العقيدة التي يريدونها بعد رفع الضّغط السياسي عنهم، ولكن هذا ليس معناه أن يجعلوا إلههم هواهم، ويختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدًا للعباد! إن الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبوديّة لله وحده، وذلك بتلقّي الشرائع منه وحده. ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النّظام العام - ما يعتنقه من عقيدة، وبهذا يكون الدّين كله لله. أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبوديّة كلها لله".

"رائدا التّصحيح"

حرص المودودي وقطب على نسف كثير من المفاهيم التي كانت مطروحةً للنقاش والبحث، مما يرتبط بالإسلام والجهاد. ويبدو الاثنان (ولا سيّما قطب) أشبه بمن يرغب في قيادة "ثورةٍ تصحيحيّة تعيد الأمور إلى نصابها"، وعلى الأخصّ ما يرتبط بالجهاد ومراميه وأدواته وأحكامه، ونظام الحكم. وهما هنا يُكملان ما بدأه حسن البنّا مؤسس "جماعة الإخوان" من السّعي إلى الانقلاب على انهيار الخلافة، وعلى ما نظّر له الإصلاحيّون (مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني) من آراء وأفكار. يخلص المودودي في كتابه "شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدّوليّة" إلى أن "«الجهاد هو الوسيلة النّاجعة لاستئصال جذور الشر، وإن استلزم الأمر القضاء على الحكومات كلّها عن طريق الجهاد، وإقامة حكم منصف وعادل قائم على خشية الله". أما قطب، فيعرّف الجهاد في كتابه "السّلام العالمي والإسلام" بأنّه "التكليف الذي يقتضي المسلمين أن يكافحوا الطواغيت وحاكميتهم". اهتمّ الاثنان أيضاً بنفي صفة "الدّفاعيّة" عن الجهاد في الإسلام. وخلافاً لما حاول "المصلحون" تكريسه من أنّ الجهاد حين يرد في النص القرآني بمعناه القتاليّ فإنّما يرد في إطارٍ دفاعي بحت، هاجم قطب ذلك الرّأي والقائلين به، لأنّ "الذي يدرك طبيعة هذا الدين يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف، ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعيّة بالمعنى الضيّق"، فلا بدّ من الدعوة إلى الجهاد، ولا مناص أمام المسلمين من تلبية النداء "سواء كانت دار الإسلام آمنةً أم مهددةً من جيرانها". يذهب قطب أبعد، فيفسر السلم نفسه تفسيرًا حربيًّا، فـ"الإسلام حين يسعى إلى السّلم لا يقصد تلك السلم الرخيصة، وهي مجرد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية، إنما هو يريد السلم التي يكون فيها الدين كله لله". لم يدّخر "رائدا التّصحيح الجهادي" جهدًا في تكريس صفاتٍ حازمة وحاسمة للجهاد المطلوب. إنّه جهاد يستهدف كلّ الأنظمة السياسيّة محليّة أو غيرها، وكلّ القوانين والشرائع الوضعيّة، وكلّ الحضارات "الفاسدة"، وهو جهادٌ لا يعترف بالقطريّة ولا القوميّة، وهو جهاد (وهنا مربط الفرس) مفروضٌ "لا ينقطعُ إلا بعقدِ راية المعمورة بأسرها لحكم الله على يد المجاهدين". فأيّ غنيمة أكبر من هذه يبتغيها "المجاهدون"؟ وأيّ فوز يطمحون إليه أكثر من الفوز بحكم الأرض (باسم الله) في الدّنيا، وبـ"نعيمٍ مُقيم" في الآخرة؟ 


درعا 2011 – السويداء 2023: الدروس (غير) المستفادة!

سيقال الكثير حول الرايات والغايات وتصدّر مشايخ العقل "حراك السويداء". لكنّ المؤكد أن نزع ذلك كلّه من..

صهيب عنجريني
"بناء الشخصيّة" بين دراما الزبدة ودراما الزّبَد

بعض الشخصيات قد تُنهي العمل الدرامي على الصورة ذاتها التي بدأ بها، ولكنها، مع ذلك، يُفترض أن تقدّم لنا..

صهيب عنجريني
ابتسمي أيتها الدراما

ثمة مسلسلات يَفترض فيها الكاتب الذروة التي يريد من الأحداث أن تصلها، ثم يبدأ في قيادة سلوكيات الشخصيات..

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة